لبنى فضل الغزالي: أبصر ساعته المتأخرة خمس دقائق لتعلمه أنها أتمت الواحدة ظهرا، فبعث بصره ناحية السوق القديم، شده القرص الغاضب في كبد السماء و قد أرسل سهامه الملتهبة لتحرق رؤوس المارة, الفوضى تعم ذلك السوق,أولئك الباعة المتجولين وأصحاب البسطات قد استولوا على آخر شبر من ذلك الطريق الضيق مما جعل شتائم أصحاب السيارات كوابل الرصاص ما إن يقفل احدهم فاه حتى يفتح آخر، يشتعل السوق و يختنق أكثر كلما أذنت ساعته الموقرة لدقيقة أخرىبالمرور،واكتمل المشهد الهزلي أخيرا بتدافع عاشقي القات إلى وسط السوق لتأدية طقوسهم المقدسة. أما هو فضل غارقا في بحر عرقه منتظرا أن يتحرك باص الندامة كما كان يدعوه. تدافعت تلك الأجساد المحترة لتملئ الباص معلنة بدئ رحلته ،فتنهد بفرج ملقيا جسده في كنف الكرسي المتهرئ ،داعبت نسمات باردة وجهه المسمر أخيرا متلاعبة بتلك الشعرات البيض المشتعلة في رأسه قبل أوانها، أبت عيناه هذه المرة أن تستسلم لنعاس الطريق، وأصر عقله أن يفتح أبواب الذاكرة الموصدة منذ زمن ، لتزوره خاطرة قد عافها منذ عشر سنين مضت حين كان ما يزال طالبا حالما في آخر سنة له في كلية الهندسة ، تذكر غرقه بين كل تلك المخططات و الرسومات و أحلام ظن تحقيقها مشرفا على الدنو منه أخيرا ، إلا أن كل ذلك اختفى مع آخر توقيع في شهادة تخرجه التي أعلنته عاطل مع مرتبة الشرف ،وهكذا تمر السنون تاركة إياه بائع في احد المحلات في محافظة أخرى.
تململ في كرسيه مخفيا دمعات حانقة تسللت من عينيه خلسة ،فقفزت صورة معشوقته التي اذكت لهب الاجتهاد في نفسه منذ زمن، هي تلك التي كان يناظرها كلما غدا و راح من كليته لتزيده شوقا و إصرارا على النجاح، أرادها أن تصبح منظمة نظيفة كما هي مرسومة في قلبه قبل مخططاته- نعم -هي مدينته التي لم يبقى من مدنيتها سوى كثرة ساكنيها و سوقها ذي الشارع الوحيد ونظام قد سرب من بابها الخلفي ، كل هذه وتلك الأفكار تصارعت بشدة في عقله مخلفة ورائها ساحة حرب مدمرة وجريح وحيد هو قلبه.
انتهى يومه و مازالت العبرات الخانقة تكتم أنفاسه كلما حاول إغلاق باب ذكرياته من جديد ، فغادره سلطان النوم تلك الليلة ،وأخذت ساعات الليل الطويلة تطفق عليه آلاف التساؤلات ، تلك نفسها التي قادته أن يرتكب حماقة كبرى وذنب لا يغتفر، فاغرق نفسه مجدد بين أوراق قد غطاها غبار سنين كثر، لينهي مع أول خيوط الفجر خطته الشاملة لتطوير المدينة، معلنا في قرارة نفسه خلع رداء الخوف لتنفيذها ولو كان باللسان.
وما إن تعامدت الشمس مع رأسه حتى خطا نحو وسط المدينة,صرخ مخاطبا كل من كان هناك يكفي أهذا ما تريدون أن تورثوه لأبنائكم؟؟؟ شوارع ضيقة،ومكبات قمامة تدعونها أسواق ،ألم يحن الوقت لتفيقوا من سباتكم ألكهفي؟؟؟ لتنظروا إلى أين تقودكم أقدامكم المتسخة بدمار هذه المدينة، أيها الميتون استنشقوا معي روح الحياة، وتخيلوا فيها أسواق بعيدة عن أطنان القمامة ،ومواقف حديثة للباصات، شوارع واسعة ،ملاعب وحدائق فسيحة مدارس آمنة ،و مشافي نظيفة، وخلال دقائق معدودة رسم لهم ما استحيوا أن يتخيلوه من قبل..
سرت بين مستمعيه من أصحاب العقول البسيطة همسات خفية،فاخذوا يتساءلون ويردون على بعضهم البعض: هل هو مسئول جديد؟؟ لا بل أحد المرشحين في الانتخابات القادمة يبدو أنه قد بدأ برنامجه الانتخابي مبكرا!! - وهل من انتخابات قريبة؟؟؟ - وما أدراني؟؟؟ انه مجرد مخبول افقده الحر عقله. ....-
استمر هو في إلقاء خطبته، واستمروا هم في التهامس حتى تجمع حوله مئات الفضوليين مغلقين الطريق الرئيسي الوحيد ففاجئه أحدهم بسؤال غريب:
هل أنت مسئول؟؟ -لا…. قالها بتردد، فتعالت أصواتهم الغاضبة إذا كيف تجرؤ على قطع الطريق بهذه الوقاحة؟؟؟؟ تلعثم لسانه وهو يخبرهم أنه مهندس مدني، لكن لا أظن أن أحدا قد سمعه بعد أن انهالت عليه الضربات و الركلات من أولئك الفضوليين وهم يصرخون اضربوا المجنون لعلكم تأجرون.. ومن حينها ومهندسنا المدني يفضل نوم الطريق بدل الشرود في أحلامه الوردية..