كثيرا ما يسأل بعضهم ببراءة أو مكر لماذا لم يصرخ شعب الجنوب قبل الوحدة في وجه نظام حكمهم رغم شظف العيش كما يصرخ اليوم في وجه دولة الوحدة؟ الجواب ببساطة لقد تمتع الشعب في الجنوب بالأمن، وسيادة القانون والعدالة، وتوفرت الخدمات المجانية، وكاد الجنوب أن يخلو من الرشوة والفساد إلا فيما ندر وتحققت المساواة والمكتسبات والمنجزات المدنية والحقوقية التي كانت محل فخر. أما بعد الوحدة فلم يكن الغدر بالوحدة والنكوص بالشراكة ونهب حقوق الجنوبيين لوحدها هي من فجر غضب وصراخ شعب الجنوب، وإنما حينما اكتشفوا مصادرة كل المكتسبات التي تحققت في عهد دولتهم. فالنظام سابقه ولاحقه أو بالأصح عصابات السلطة والنفوذ التي هيمنت على دولة الوحدة ظلت تسخر ممن يدعو بشعور وطني إلى إصلاح الوطن، وإيقاف تهاويه إلى جحيم الكارثة التي سقط فيها اليوم. ظلت تتجاهل من يحذر من مخاطر تعطيل القانون واستغلال نفوذ السلطة لإفساد الدولة والإثراء بنفوذ السلطة. السلطة المتخلفة التي هيمنت على البلد دون أن تكون حامل مؤهل وكفؤ لمشروع الوحدة الذي أريد له أن يكون مشروعا استراتيجيا ظلت ترفض أن تصغي لمن يقرع جرس المخاطر المحدقة بالوطن الموحد، أو يحذر من تعطيل الدولة لصالح الفوضى والفساد، وتحويلها من دولة مؤسسات وقانون إلى سلطة ولاءات ومصالح تعيث بها عصابة حكم فاسدة متنافرة، وشلة من الانتهازيين وأنصاف الأميين، ظلت هكذا سلطة همجية تتجاهل التحذيرات بأن قانون القوة والمساومات وسمسرة الصفقات وإهدار موارد الوطن لشراء الموالين ليست حلا لازمات الوطن. عصابات سلطة فاسدة ظلت ومازالت تستنزف موارد وثروات الوطن ومساعدات مانحيه لشراء موالين تافهين بالسيارات الفارهة والرتب والرواتب والمناصب والأراضي، ووظائف مزدوجة توزعها بالجملة لمواليها، بينما مئات الآلاف من حملة المؤهلات الجامعية عاطلون عن العمل. وهاهي النتيجة تثبت إن الوطن لم يحكم بالقانون وإنما بسلطة النفوذ وقانون القوة، وأن خراب الوطن اليوم لم يكن سوى نتاجا طبيعيا لهيمنة سطوة عصابات التسلط وقوة البلطجة لسنين طويلة. إن فشل وفساد نظام الحكم الذي أدار الوطن بدون منظومة تشريعية، وسلم زمامه للعصابات والفاسدين المنافقين والمتكسبين واللصوص قلب الوحدة إلى وبال على الشعبين شمالا وجنوبا، وأسقط البلد في محنة مرعبة لم تمر بها في تاريخها، اتسعت معها الشروخ الوطنية والسياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية إلى حد لم يعد يجدي معه الترقيع واستبدال صيغة الوحدة بصيغ فضفاضة. البلد اليوم في لحظات احتضاره، يشتعل، يتساقط في الفوضى العارمة من انهيار الدولة والنهب والحرائق والدماء والدمار التي تعصف به، سفك دماء وتخريب ونهب وحرائق وإعداد لحروب لن تقف حيثما يراد لها أن تقف، ويدفع ثمنها الوطن وأبناؤه من دمائهم وأموالهم وامنهم ولقمة عيشهم. إن اضطراب منطقة أو مناطق من الوطن دليل على فشل وسوء النظام وعجزه. ولجوء الأنظمة الفاشلة إلى القوة العسكرية لإخضاع منطقة من البلد عسكريا ليس حلا لمشاكله وإنما هزيمة سياسية لنظام حكمه، لأن القوة المسلحة لا تنهي الظاهرة، وإنما تخمدها إلى أمام هذا الحال المؤلم يقفز السؤال الأكثر رعبا اليوم وطن من هذا الذي يحترق من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه غير وطننا؟ من شرخ لحمته الذي يتسع اليوم في أكثر من موضع؟ ومن أشعل كل هذه النيران لحرقه غير عصابات السلطة والنفوذ؟ وهل مخرجات حوار هلامي، أو إعادة فدرلة البلد ستحل مشاكله؟. حزن عميق يعتصر الأنفس على وطن لا بديل لنا سواه ،وفي سبيله تجرعنا مرارة العيش والبؤس، واليوم نراه يحترق أمام أعيننا، ينهار فوق رؤوسنا. فمن ذا الذي سيتصدق علينا بوطن بديل عن وطن كان لنا فدمره فساد حكمه؟ وما جدوى لطم الخدود كما تفعل الثكلى على وطن لم نعرف كيف نحافظ عليه؟