الاهداء: الى مدينة الضالع الصامدة والقرى من حولها تحية وتضامنا في شارع الشهيد مدرم في المعلا أقيمت جمعة مليونية الحسم وهنالك جمعة أخرى في ساحة الدرويش في خور مكسر بعد أن منعت الجماهير من دخول ساحة العروض وقمعت بوحشية وبعد أن أخرج الاحتلال كل قواته الأمنية والعسكرية بمختلف أنواعها وحشد جلاوزته وعملاءه ومليشياته في كل تقاطعات المدينة المسالمة ممزقا أوصالها لا لشيء ولكن ليواجه شعبا أعزل خرج ليوجه رسالته للعالم إنه يرفض مشاريع الاحتلال المتمثلة في تقسيم الجنوب ويحيي ذكرى 21/ فبراير المجيدة التي قذفت بالوحدة إلى مكان سحيق.
كنت هناك بالمعلا بين المصلين نفترش الإسفلت تحت أشعة الشمس العدنية الشتائية الحانية، شعرت أن المليونية قد نجحت وأن الرسالة قد وصلت. كان الحشد كبيرا تلتفت يمينا ويسارا فلا يصل نظرك إلى آخر الاصطفاف من الجهتين على الرغم من العراقيل والقمع والاستفزاز خلال الطريق إلى المعلا الحبيبة .
طلب الشيخ مشدود خطيب ذلك اليوم المشهود من الحاضرين المحتشدين مواصلة الاعتصام في شارع مدرم على اعتبار إن الرسالة قد وصلت وحفاظا على الدماء والأرواح لأن قوات الاحتلال مستهترة ومهستره ، وكنت أنا أميل إلى هذا الأمر، وما إن انتهت الخطبة وجرى ترديد الدعاء والشعارات حتى اتجه الحشد نحو ساحة العروض، ساروا كما يسير السيل في طريقه المفتوح، كان القمع قد استفزهم والمنع جعلهم أكثر إصرارا على الوصول إلى الساحة رغم معرفتهم أن قوات الأمن والجيش المتربصة لن ترحمهم ولن تستقبلهم بالورود.
كانوا يضربون الأرض بقوة وحماس، يشعر المرء وهو بينهم كأنه يطأ الثريا : شباب في حماس رائع وتحدٍ منقطع النظير، وكهول مجهدون ولكن مكافحون : ثمة شيوخ وأطفال أيضا كانوا يسيرون معنا باتجاه الساحة الرمز، أيقنت وأنا بينهم أن هذا الشعب لن يهزم ولن تلين له قناة ولن يقبل الضيم والظلم وأن النصر مرتقب والمسألة مسألة وقت وإدارة وترتيب وقيادة موحدة ومقتدرة. وجوه مألوفة وإن لم تكن كلها معروفة ، لقد جمع بننا موكب التحرير من جديد ، صرنا نلقى أتراب الطفولة وزملاء الدراسة ورفاق الخدمة العسكرية وسط هذه المعمعة التحررية، وجدنا مدرسينا كما وجدنا طلابنا التقت الأجيال كلها في بوتقة واحدة هي بوتقة الثورة والعمل في سبيل الخلاص من المأزق التاريخي الذي وقع فيه شعب الجنوب في غفلة من التاريخ ، كما التحمت شرائح الجنوب الاجتماعية على صعيد واحد من عمال وفلاحين ومثقفين وعسكريين وأكاديميين وطلاب وغيرهم لا فرق بينهم ولا تمايز لقد صرنا جميعا في الشارع نبحث عن دولة تأوينا وتداوي جراحنا الغائرة وعن وطنٍ يعزنا لم نعرف قيمته حق المعرفة إلا بعد أن فقدناه.
اقتربنا من بوابة جبل حديد، كان الجنود أمامنا مسلحين ولكنهم لم يطلقوا النار، لقد كان الحشد مهيبا، كنا نقترب من جولة ( ريجل ) التي حولتها قوات الاحتلال إلى جولة للموت وسفك الدماء واستفزاز العابرين واستعراض للقوة. كنت أقول في نفسي: " ليس بعيدا اليوم أن تخترق رصاصة من أي نوع صدري أو رأسي، أو امسي جريحا أو معاقا، لعل الشباب لا يفكرون بهذا مثلي بسبب الفرق في العمر بيني وبينهم، وعلى أية حال لست أفضل من هؤلاء الذين يشقون طريقهم نحو الساحة ولست أفضل ممن استشهد أو جرح خلال سنوات النضال الخوالي من عمر ثورتنا المباركة.
كان ابني (طالب جامعي) قد تجاوزني ومضى يركض نحو شباب المقدمة ، كانت الطلائع الاولى من الحشد قد وصلت الى جولة (ريجل)وهناك كان الجنون العسكري ينتظرهم ...اطلقوا عليهم النار بكثافة من فوق الجبل وتقدمت مصفحة تطلق النار وتطارد الناس ..اصوات قوية متواصلة مختلفة كأنها الرعود ، وتصاعد الدخان بالفضاء ،لعل ارواحا بريئة قد سبقته صعودا الى بارئها . يا الله ما هذا الذي يحدث ؟ اللهم احكم بيننا وبين هؤلاء القوم بالحق وانت خير الحاكمين !!!.
عاد الناس يجرون نحو المعلا هاربين من القصف المتواصل عليهم من اكثر من مكان ، نظرت في وجوههم لم اجدهم خائفين ولا مرعوبين ولكنهم تجنبوا القصف الشديد المتواصل بعد ان فرقهم ،انهم لا يمثلون فيلما هنديا حتى يتجاوزوا تلك القوه المجنونة الباطشة ،انهم امام واقع حي ورصاص حي : حشد مسالم في مواجهة ترسانة اسلحة وجنود حاقدون انتزعت الرحمة من قلوبهم .عادت الحشود نحو المعلا كان البعض يحث على العودة نحو ريجل ،ولكن حركة الحشود غالبا ما تكون تلقائية كرا او فرا ومن الصعب ان تتحكم بها .
ساروا وسرت معهم فعادوا فعدت معهم ولكنني لم استطع ان اجري كما جرى الشباب كرا و فرا ،وعند شركة النفط في المعلا وجدت امامي ابني وسيارتي فمضينا نحو كريتر وانا اردد : لقد وصلت الرسالة .. لقد وصلت الرسالة .
هذا عن اليوم المشهود الذي لم اذكر الا بعض تفاصيله ،فهناك امور لم اذكرها وهناك مشاهد اخرى غابت عني ،ففي الضفة الاخرى كانت جمعة اخرى في ساحة الدرويش ، وكانت الجماهير منذ الخميس تزحف نحو عدن وتحاول الكر من كل صوب لدخول الساحة وقد نجحت احيانا ولكن قوة الحديد والنار المأزومة تفجرت في وجوههم وقتلت من قتلت وجرحت من جرحت واعتقلت من اعتقلت .
يا ترى اين كانت مثل هذه القوة حين اقتحمت وزارة الدفاع في صنعاء والسجن المركزي هناك وخرج منه المعتقلون طابورا آمنين (انها مفارقات عجيبة) .
اما الشيخ بن مشدود فقد فند في خطبته ادعاءات ابواق الاحتلال وتبريراتهم البائسة في عسكرة المدينة ومنع ثوار الجنوب من اقامة مليونيتهم في ساحتهم الاثيرة ساحة العروض التي شهدت ميلاد ثورتهم الثانيه ب 7/7/2007 م وعددا من المليونيات السابقة .
كان صوت مشدود يشد الرؤوس مجلجلا يصدح بالحق ويصدع به ،مرتجلا.. مسترسلا ومفصلا باثا رسائله في كل الاتجاهات ،قوي الحجة بارعها فاضحا اساليب الاحتلال وخطابه الهش ،خطيبا مثقفا قارئا يربط ربطا موفقا بين الماضي والحاضر ، وبين ما جرى في القرآن ويجري الان في الميدان لان الحق والباطل قديمان. في صوته بحة زادته فصاحة ونبرة بدوية جعلته قريبا من الناس ومن قلوبهم. ما اجمل البدو وما اروعهم حين يتعلمون ويتفقهون وقل مثل هذا في كل الاشخاص والقبائل والمجتمعات والشعوب والامم فبالعلم يرتقي الانسان ويعرف مساره ورسالته .
خاطب الشيخ الاخوة الجنوبيين الواقفين في جبهة الاحتلال ضد شعبهم وقضيتهم ومصلحة ابنائهم ومع ان هؤلاء تجاوزوا حدودهم واوغلوا في العمالة ووقفوا عراقيل وخنادق في طريق ثورتنا الى ان الشيخ لم يهددهم ولم يتوعدهم بالانتقام الى ما سيلقونه قريبا من جزاء مخز على ايدي الاحتلال نفسها.
اتذكر انني كتبت في 2009م مقالا بعنوان (القضية الجنوبية والحراك السلمي من وجهة نظر اسلامية)نشرته الصحف والمواقع، حينذاك لم تكن الهيئة الشرعية الجنوبية قد قامت ...لم اصدر فيه فتوى فلست اهلا لذلك ولكنني اجتهدت وقلت رأيي ودعوت العلماء لاسيما في الجنوب الى نصرة قضية الجنوب . اما اليوم فاحمد الله تعالى على ما صار لدينا من هيئة شرعية تنهض بواجب كبير في مسيرة ثورتنا التحررية ومن بينهم الشيخ محمد بن مشدود والشيخ حسين بن شعيب والشيخ عبدالحكيم الحسني والشيخ انور الصبيحي وثلة من علمائنا الاجلاء الذين يبلون بلاء حسنا في التوعية الدينية والاخلاقية والوطنية والثورية والسياسية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المعاصر .