إن من يغادر صنعاء إلى الجنوب – يحس فورا أنه انتقل إلى مستعمرات،وكلما يتوغل جنوبا يشعر بأنه يعود قرنا إلى الوراء وتحيط به أنماط من الحياة تنتمي إلى عصور ماضية"عنجهية المحتل اليمني عنوانا صارخا"،فمع كل كيلومتر تقطعه نحو الجنوب تزداد إحساسا بهذا الواقع المؤلم،ناهيك عن الحصار المطبق والقصف العشوائي على قرى الضالع،فالخطوة الأولى في استراتيجيه المحتل هي تدمير القرى! السادة المحترمون نحن الآن في الضالع،والدمار في كل مكان حولنا،وفوق كل بيت مدمر لازالت راية الوطن ترفرف بشموخ دون أن تتأثر بوحشية القصف،حتى الأطفال في الضالع قد نضجوا قبل أوانهم،فكان لزاما عليهم أن يقوموا بدور أكثر نضجا،لذا تجدهم حريصين على بقاء راية الوطن ترفرف أكثر من حرصهم على ألعابهم التي دُمرت،لقد تناسوا الفرح الطفولي تماما ولم يعد أمامهم من خيار سوى المزيد من كره المحتل ومقاومته مهما كلف الثمن،وتركوا لكل من فقد ضميره ممن لازال عونا للمحتل،تركوا له أن يفهم لماذا؟وماذا يمكن أن يقول؟... الأسماء لا تهم،فحنجرة الجنوب تشكوا من كل شي..من العرب ومن المجتمع الدولي ومن نفسها ..ومن قيادات الجيوب"عفوا الجنوب" ومن الشعب الشمالي ومن كل شيء..كل ما في الجنوب يصرخ كجسد يُسلخ بالتقسيط..إنسان الجنوب ممزق وبسيط وحائر وساذج والكل يستغله،لقد تحول إلى بضاعة في سوق المزايدات العربية..وارض الجنوب تضيع..وخفافيش صنعا يرقصون ويتغنون كما يغني السكارى في الظلام ..أضنهم ثملين!الخوف تملك قلوبهم فأفقدهم لذة "السُّكر" وتحول نهارهم إلى ظلام...هكذا انطفأت شعلة الجنوب،وها نحن نعود عصورا جديدة إلى الوراء،ونكتب سطور تاريخنا على ضوء قنديل عتيق،وأخشى أن نعود مزيداً من العصور إلى الوراء،إلى عصور ما قبل اختراع الأبجدية وترحل من وطننا الكلمات، فمنذ أعوام عديدة كان للجنوب نكهة أخرى،كان عالماَ يسوده الصفاء والبساطة،وكانت الثقافة تفوح من أرجاءه كرائحة الفل الزكية...كان لنفطه رائحة تراب الحقول،وفراشات صغيرة ترقص له طويلاً.....وكان الجنوب العتيق رمزاً محببا إلى قلبي،كان يحمل لي إيحاءات بخروج المارد من القمقم،متبسماً يقول لي أطلب ما تريد فأنت في الجنوب حيث يهون الصعب ويصبح المستحيل ممكناً....
والمطلوب؟؟ المطلوب فتح الجنوب،تعميره...تنويره..وإقامة مستعمرات وعي تستطيع أن تواجه المستعمر وتنشر مناعة الوعي الحضاري وروح التجدد...لأنه مادام الجنوب خاويا من الوعي فان احتلاله سيتم بصمت كما يتم الآن..وقد يأتي يوم نذهب إليه كسياح..أو نجعل منه حائط مبكى جديدا!الجنوب!الجنوب!هل يمكن للإذلال أن يصبح روتيناً!ولقطعة ارض من الوطن أن تصير مرمى لمدافع المحتل!الجنوب هناك يتعذب أبناه في كل لحظه،يقاسون الحرمان،منذ أعوام ونحن نصرخ ولكن لا حياة لمن تنادي..والمهم أن المأساة الجنوبية لم تواجه حتى اليوم بغير الكلام والتزمير والمزايدات الخطابية...بالمناسبة قد لا أكون موفقا في وصف "جحشنة" المحتل،لكن هناك من يعرف جيدا كيف يصفهم،لذا فقد عمدتُ إلى أن أكون أكثر وسطية واعتدالا..وان أصفهم بما يليق فيهم كمحتلين..وان لا أقارنهم بالعدو الصهيوني لأسباب أخلاقية تظهر تفوق العدو الصهيوني في كافة الحروب التي خاضها ضد العرب- عدم قتله للأسرى- وبالتالي فانه ومن اليوم، يجب أن نعترف أن العدو الصهيوني أكثر التزاما بأخلاق الحرب من نظيره "المحتل اليمني"،وهذا ما أثبتته الحرب الدائرة في الضالع وكافة مناطق الجنوب..