عندما ذهبت السلطة في اليمن الى الحرب ضد "الحوثيين" من اليمنيين اعتقدت وبكل بساطة انها ستقوم بقمع تمرد تستطيع ان تنهيه في ايام او اسابيع. والآن وبعد الاشهر الخمسة بات واضحاً ان النار تضطرم وتتسع رقعتها وتدخل عناصر جديدة ويشتد خطرها الى درجة جعلت البعض يرى فيها خطرا على "الامن والسلام العالميين"، ثم انبرى الغرب وبالقيادة الاميركية الى تصنيف المسألة اليمنية في درجة متقدمة من الأولويات لديه، وهو وان لم يحدد الدرجة فإننا نعتقد ان اليمن هو في درجة الاهتمام الاولي اميركيا وهي وان لم تتقدم على افغانستان فإنها على الاقل تساويها. وهنا يتساءل المتابع: هل ان السلطة اليمنية التي بقرارها الغاء اتفاقية الدوحة اضرمت النار في صعدة، هل انها اساءت التقدير الى هذا الحد فوقعت في فخ لم تنتظره؟ ثم هل ان السعودية التي انزلقت الى الميدان كانت مستبعدة لفكرة الاستنزاف والارهاق الذي قد يصيبها من جراء حرب لا افق لها؟ وهل ان للحوثيين في الاصل مصلحة في سفك دماء ابنائهم واطفالهم بالقصف الذي يتعرضون له من اكثر من جيش نظامي يمني واجنبي؟ وهل ان لايران يداً في الصراع؟ واخيراً هل ان اميركا متضررة ام مستفيدة مما يحدث وقبل كل ذلك ما هو افق هذا القتال؟
وابدأ بالتساؤل الاخير، لأرى ومن منظار عسكري واستراتيجي بحت، ان الصراع العسكري في اليمن وتحديدا في منطقة صعدة وجبالها، هو صراع لا تحسمه القوة وان الامثلة المؤكِّدة لهذا الرأي كثيرة يزخر بها التاريخ الحديث والمعاصر، وبكل بساطة نقول لكل جيش نظامي ادلى بدلوه في ميدان صعدة انك لن تملأ الدلو ماء ولن تعود باكليل غار، ولن تتمكن من اطفاء النار، وجل ما يمكن فعله هناك قتل ومزيد منه، ودمار واستمرار فيه، اما سيطرة واستقرار يفرض بالقوة في مواجهة عصابات مسلحة استطاعت ان تصمد الاشهر الماضية، فإنه امر صعب المنال ان لم نقل باستحالته.
وفي المقابل فان الحوثيين لن يستطيعوا اسقاط الحكومة المركزية، كما ليس في مصلحتهم الانفصال عنها. والحل الوحيد لما يجري لا يكون الا باتفاق سياسي يبرمه المتحاربون يكون فيه اعتراف الواحد للآخر بحقه في اطار اليمن الواحد... ولكن هذا الحل ترفضه السلطة اليمنية، التي تصر على السير في قرارها الحربي بتشجيع من قوى خارجية وهنا تكمن العقدة التي تستدرج المتابع للتساؤل: أليس هناك فخ نصب في اليمن...؟ وتاليا: من نصبه؟ ومن وقع فيه؟ ومن يستفيد منه؟ وهذا هو الاهم. اما عن المستفيد فاننا نرى انه وبعد اسابيع قليلة من اضطرام النار اليمنية، وبشكل مفاجئ ومن غير تمهيد عقدت "السي آي إي" اتفاق تعاون استراتيجي مع المخابرات اليمنية، يتيح للطرفين تبادل المعلومات مع تسهيلات، ولكل منهما العمل والاستقصاء والترصد والتعقب على ارض الآخر، ومن البديهي ان نقول عن الاتفاق إنه تشريع رسمي للعمل الاميركي الاستخباري في اليمن، وهذه كانت الخطوة الاميركية الاولى لاستثمار الحرب، وبعدها وبحجة دفع خطر يتشكل ويتهدد مصالح اميركية في اليمن، وتحت عنوان دعم واسناد الجيش اليمني المرهق في حربه، قام الطيران الحربي الاميركي بتنفيذ اكثر من غارة قتل فيها يمنيون مسلحون ومدنيون.
غارات نفذت من دون طلب يمني اصلاً، ثم كانت حبكة النيجري عبد اللطيف الذي قيل انه تدرب في اليمن، وتلقى اوامره من قيادة "القاعدة" هناك بعدما تجهز وانطلق ليفجر طائرة متجهة الى ديترويت في اميركا. قصة نرى فيها من وهن الحبك والتأليف ما يستبعدها من دائرة الحقيقة والتصديق، ليطرح السؤال عن سبب اللجوء اليها، خاصة ان كل المؤشرات والدلائل تقطع بقدرة اميركا على منع حصولها اصلاً... فاميركا كانت قادرة ولم تفعل واحجامها لم يكن سهوا او غفلة كما قد يُظن، لان الارجح في ظننا ان المخابرات الاميركية سهلت حصولها، ان لم نقل اكثر، ولم تتخذ من الاجراءات إلا ما يحول دون الكارثة الجوية، وكان سلوكها ذاك – برأينا- من اجل صنع بيئة ملائمة لقرار اميركي هو قيد التحضير كما يبدو... هنا يكون من المفيد بأن نذكّر بما تم في الاسبوع الاخير من حرب غزة 2008، حيث كان اتفاق رايس – ليفني، لمراقبة الممرات المائية في البحرين المتوسط والاحمر ومنهما الى مضيق هرمز، الاتفاق الذي اتبع بمؤتمر لندن لخدمة الاهداف نفسها، والذي كان من ثماره عبور البحرية الاسرائيلية في قناة السويس لاول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني، ثم التحاق البحرية الاسرائيلية بدوريات الحلف الاطلسي في المتوسط.
امور تمت وتنفذ في خضم التحضير لحرب الممرات المائية التي اقتنعت اميركا أخيراً بأنها ضرورة استراتيجية لها لا بد من الدخول فيها من اجل تعويض الاخفاق في الحرب على اليابسة، فمقولة اميركا اليوم كما يبدو تتمثل بالقول، ان كان الاستقرار على البر أمراً غير يسير، فان امتلاك قرار البحر والممرات فيه يبقى أمراً اسهل واقل كلفة. وهنا ينكشف اللغز في مسألة اليمن، حيث تبدو الحاجة الاميركية ثابتة وملحة لوضع اليد على اليمن ليس بحرب كما كان الامر في افغانستانوالعراق، بل بتشتيت قوى ذلك البلد أولاً، واظهار مدى خطورة الوضع فيه على المصالح الغربية والاميركية تحديداً حتى يبرر الانتشار العسكري الآتي ليمسك وباحكام بمضيق باب المندب ويُراقب بفاعلية بحر عدن وطرق التجارة من الشرق الى افريقيا بشكل خاص، ويكتمل الانتشار العسكري الغربي على كامل شواطئ شبه الجزيرة العربية.
لذا فان حرب اليمن تبدو حاجة استراتيجية اميركية لأكثر من سبب ميداني وسياسي. اذ بالاضافة الى ما ذكر لا تخفى اهمية اظهار التحرك الاميركي في المنطقة والمسمى "انسحاباً من العراق" او "تخطيط انسحاب من افغانستان" ورغم ان ذلك لن يحصل فعلياً، والحديث عن وجود اميركي قادم الى اليمن باعتبار ان ذلك يعني اعادة انتشار في المسرح الاستراتيجي الاوسط الواحد بما يقود الى القول إن القوات الاميركية تتحرك في الميدان ولا تخرج منه. واخيرا يبقى ان نذكّر بالمصلحة الاسرائيلية - الاميركية باتهام ايران بلعب دور في الحرب الى جانب الحوثيين وذلك من اجل تسعير الخلاف العربي - الايراني ورفع منسوب العداء العربي الرسمي ضد ايران، عقابا لها على معاداة اسرائيل في سبيل قضية فلسطين. دور قد يجد من يريد التسويق له، حجة لترويجه، تلك العلاقة العقائدية الدينية بين الحوثيين والمؤسسة الدينية الايرانية، فضلاً عن القول ب"مصلحة ايرانية شيعية ما لوجود باب ميداني تنفذ عبره الى جنوب الجزيرة العربية".
كل هذا يقود الى القول إن حرب اليمن فخ نصب لكل من استدرج اليها واطلق ناراً فيها. طبعاً لا يتساوى في المسؤولية من ابتدأ وهاجم من جهة، ومن قام برد الفعل ودافع من جهة اخرى، لكن الجميع بقتالهم هناك يقدمون الخدمة للاميركي الذي يحضر الجنود للانتشار الآمن على الشواطئ اليمنية عندما تنضج الظروف على نار اليمنيين ودمائهم... اما القول بذرائع اخرى تبريرا للحرب واستمرارها، وللاهتمام الاميركي وعنايته، من قبيل القول بخطر "القاعدة" المتعاظم، او خطر الانفصاليين المتجدد في الجنوب او خطر الحوثيين ذوي العقيدة المغايرة في الشمال، او خطر التمدد الايراني، واعتباره الخطر الذي دفع الى هذا الحراك العسكري، فانه يبقى قولاً مردوداً على اصحابه، لأن "القاعدة" كانت موجودة في اليمن ونفذت عمليات قبل 10 سنوات والحوثيين ليسوا بالطارئين على صعدة ومذهبهم لم يبتدع اليوم فهم يحملونه منذ مئات السنين... اما الجديد الوحيد في الامر فهو الضرورات الاستراتيجية الاميركية، جديد استلزم الحرب فكانت... وكانت الافخاخ للمتقاتلين. حرب ستتبدل طبيعتها ومسارها عندما تكون القوات الاميركية في المواقع التي تنتخب في اليمن غير عابئة بالرفض اليمني او التمني بأن لا يتجاوز دورها هناك سقف التدريب والتجهيز للقوات اليمنية.
*span style=\"color: #333399\"نقلا عن النهار اللبنانية - قائد كلية القيادة والاركان سابقاً في الجيش اللبناني