لليمن نكهة خاصة لا تجدها في كل بلدان الدنيا، وهي حاضرة قبل الإسلام وفي كل عصوره، يقولون لك باعتزاز: المسجد القديم بني في السنة السادسة للهجرة، ومسجد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) بني في العام الثامن للهجرة، وهكذا تجد نفسك تعيش كل العصور التي مرت بتاريخنا. أحياناً، تصبح هوية الإنسان ترتبط بكتاب، أو بلحن، أو إنجاز، لكنك في اليمن حينما تقول عبد العزيز المقالح، فكأنك عرفت بكل اليمن، فكلاهما صنو للآخر، اليمن هي المقالح، والعكس كذلك، فالمقالح هو اليمن من صعدة إلى المكلا إلى عدنفصنعاء، وقد تلمست ذلك ميدانياً خلال زيارة قصيرة حضرت حفل تكريمه الذي لم يضطر مركز الدراسات والبحوث لإرسال الدعوات أو الإعلان عن هذا التكريم، إلا أن القاعة والممرات والشارع بمركز الدراسات بصنعاء امتلأت بالناس الذين جاؤوا إكراماً للمقالح وحباً فيه. مناضلون سابقون، وزراء، علماء، قادة سياسيون، جاؤوا طوعاً لتقديم التحية لهذا الرجل الذي عرفناه على مستوى الوطن العربي بمواقفه الإنسانية، وعرفناه شاعراً حمل راية أجداده من الشعراء العرب أصحاب المعلقات ومن ثم شعراء كل العصور العربية الإسلامية، وصولاً للمقالح شاعراً مبدعاً، وإنساناً وشخصية عربية ووطنية، ورغم أنه شخصية علمية. ولكنه شخصية عامة وشعبية، تعرفه طبقات الشعب غير المتعلمة، وأنا هنا لا أبالغ، على سبيل المثال، كنا نتجول في سوق صنعاء القديم المسمى (سوق الملح) ودخلنا خاناً؛ أي ما نسميه اليوم فندقاً، وهذا الخان بني في القرن الأول الهجري وفيه مقهى صغير، فضلنا أن نشرب الشاي في المقهى، واكتشف رواد المقهى أننا ضيوف المقالح، رحبوا بنا بشكل استثنائي، ثم رفض صاحب المقهى أن يأخذ ثمن الشاي لأننا ضيوف المقالح، في حين أن (القهوجي) لم يلتق بالمقالح إلا أنه يعرفه ويحترمه ويحترم حتى ضيوفه. المقالح أيقونة يمانية، أو قل هو مؤسسة متكاملة ومؤثرة، فما وجدت رجلاً يلتقي عنده الأضداد ويتعايشون كما وجدتهم في حضرة المقالح، بل وجدت في مجلسه رموز الرفض اليمانيين وقد حجوا له من مدن أخرى. إذا حاولت أن تعدد رموز اليمن عبر التاريخ من سبأ إلى بلقيس، فمأرب، فشعراء المعلقات، وصولاً إلى البردوني، فلا بد أن تنتهي بالمقالح، فيصبح آخر رموز اليمن، ومرجعا وطنيا وإنسانيا يجمع ما بين الأخلاق والكرم، والشعر والشاعرية، وعمق المعرفة وتواضع العلماء، يسحرك كونه رمزاً شعبياً ووطنياً يلتقي عنده كل الأخوة الأعداء، وهو الذي استطاع أن يهيئ لعشرات الأساتذة العرب الحياة الكريمة في اليمن بعد أن ضاقت بهم السبل. صنعاء لها حكاية متعددة ومتشعبة، في كل حارة لك أن تستمع إلى حكاية تمتد مئات الأعوام، إلا أن أيقونة صنعاء المعاصرة ستكون بلا شك الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح.