مغادرة صنعاء صوب عدن ، تشبه الانتقال بين زمنين .. نصف ساعة جواً ً، تختزل رحلة الإنسان من وحشة عصر الكهف ، إلى دفء حضارة السهل .. من طور الغابة إلى طور الأنسنة .. من غبار الغارات الشعواء ، إلى نسنسة بخور الزعفران ، ومن عنتريات بني عبس ، إلى مواجيد " رامبو، وأمان وجرادة .. ". - لم " تتوحد " عدن تماماً " بشمال الربو " ، فمساماتها لاتزال تتنفس ، والكثير من الأشياء الجميلة لم تُسحق بعد ! أشعر بالإمتنان لغباء " فيالق الفيد " لأنه تجاوز قدراً لا بأس به - من كنوز المدينة ، ليسطو على التراب حتى اللصوص تلزمهم أحاسيس مرهفة ، ليسرقوا أجمل وأثمن ما في عدن .. يلزمهم أن يكونوا عشاقاً باتساع معنى المفردة .. أن يدخلوا المدينة متجردين من الذيول والأظافر والنصال ، وشحوم الإرث الباطني التي تذبح رئة البحر ، وتخنق بعفن الماضي المتفسِّخ ، سلاسة الحياة وإنسياب الوقت . - لي كلّ ما أخطأته قرون استشعار صراصير الجبال و " ديدان الشرعية و زواحف 7/7 العمياء " ، في عدن .. لي هذه الضحكة اللاهثة كموجة تتفلت من شفاه تلميذة ، أمسكت بياقة زميلها بعد مطاردة ، متحررين من سور المدرسة ، و رهاب " الجندر " . - لي ألق الوجوه المُشرعة على الضوء والحياة ؛ الكافرة " بتقوى النقاب واللحية " . - لي مساحات الألفة والعفوية التي يبسطها المجتمع العدني في سلوكه اليومي ، متجرداً من الأقنعة والمتاريس وقعقعة المجتمعات الفارغة - لي حب العدني للحياة ، وانتشاؤه ومكاشفته وضجره و " عرعرته " وحذقه الحضري ، وانتماؤه للأمكنة والمباهج المفتوحة ، وإحساسه الحاد بالفرادة . - ولي هذا المقعد البحري العاكف على كتاب الماء .. أدير ظهري بوثوق لمدينة لا يتبول إنسانها على تداعياتك وهرائك الخاص ، ولا يبصق " بردقان الفضيلة " في شرنقة انزوائك .. أدير ظهري للبحر فيضربني هدير أوجاع البر و أحس كما لوأنني حبيس بحرين. ها أنا أقف موقف عاشق نذل يحسو شهد المدينة ويتخطَّى نزيفها .. سأزعم بأن " عدن " بصمة العصر الوحيدة في شبه جزيرة البداوة كلها . سأدعي صادقاً بأنها الأشهى والأزهى والأرقى والأرحب أفقاً ، وبأنها الجغرافيا الأوحد التي تتيح لي أن أتأنسن ، في " جغرافيا الرباح " .. سأعشقها كثيراً وأرتلها كثيراً ثم سأغادرها وحيدة في مرمى " جياتر النَّصَع وحلقات العكفة و زوامل الزَّلاج "، لأعود - لاحقاً - فأحصي أعداد البثور ومساحة البرص الزاحف ، وأكتب معلقة في رثاء زرقة البحر الذاهبة ، وأخرى في مديح زنابق المدينة الأخيرة . - ينبغي أن تبقى " عدن " لتبقى النوارس ويبقى البحر ، ويبقى الشعر، ويبقى العطر .. لا بداوة مع " عدن " ، ولا مدنية بعدها . إنها معركة بين زمنين .. ولا ذريعة لعدم الانحياز !