في أحد شوارع مدينة المعلا ؛ أوقفت حافلة أجرة صغيرة ، كي تقلني إلى مدينة كريتر عدن . ترجل من الحافلة .. رجلان .. كانا يقعدا خلف السائق مباشرة ، كي يفسحاء لي الطريق ( طريق الدخول إلى الحافلة .. ) ولأجلس على الكرسي المحاذي للنافذة .. ثم أنظما الرجلان للجلوس على مقعديهما بجواري . جلس على يميني الرجل ( الأول ) وكان مهندم اللبُّاس مرتب الشعر، في مجمله نظيف .. ويبدو عليه شيئاً من الوقار .. بينما الرجل ( الثاني) كان عكس الرجل ( الأول) تماماً ، ويبدو رث الثياب ، أشعت الرأس ، كث الشارب ، وكأنه لم يمسح وجهه بشيء من الماء ذلك الصباح ( الذي يسق الثالث عشر من شهر يناير عام ثلاثة عشر بعد الألفين الميلادي ) – يوم التصالح والتسامح – كان الجو – رغم الظهيرة – جميلاً ، والسماء صافية زرقاء ، والحافلة تصعد بنا متجهة صوب باب عدن التاريخي .. أطل الرجل ( الثاني ) برأسه من بوابة الحافلة .. مع تجاوزنا بوابه عدن التاريخية .. وإذا به تبدو عليه الدهشة ، وكأنه أكتشف شيئاً لم يسبقه أحد إليه . – هكذا دلُّتْ ملامح وجهه حينها – وهو يخبر ركاب الحافلة .. ثم يردد بالقول : " هذا الذي أراه أثر صاروخ ، صاروخ " وأضاف إلى قوله : " ضربونا بصاروخ .. أكيد سقط في الطويلة " (( ويقصد بالطويلة : حي سكني يقع غرب مدينة كريتر . )) أشتد شجن من يركب الحافلة .. وذهب كلً يحرك رأسه يساراً ويمنياً لعله يراى ذلك الذي ادعاه ( صاحبنا ) الرجل( الثاني ) ، وهكذا فعل برأسه من كان يجلس بيميني الرجل ( الأول ) ، ثم عاد إلى وضعه في الجلوس الطبيعي وقال : " هذا الذي ترونه في السماء .. غاز أبيض اللون على شكل خط طويل ؛ عادة تطلقه الطائرات التي لديها مشاكل محددة في التواصل ( لطلب المعلومات ) مع برج المطار .. القريب منها .. ولتوجيهها . رد الرجل ( الثاني) قائلاً : " يا أخي هذا صاروخ .. أنا أعرف .. وباتشوف اليوم في الليل ، كل الفضائيات .. باتجيب الخبر .. ضربونا بالصاروخ .. " . عاد الرجل ( الأول ) – وبهدؤ تام يؤكد – قائلاً : " هذه طائرة تائهة .. تطلب من البرج المساعدة في التوجيه .. " . وعاد .. (الثاني ) مصراً ومكابراً على ماقاله : " باتعلمنا .. أنا أبن عدن .. وأن كانت هذه طائرة .. أيضاً باتكون سقطت في الطويلة .." ! . أخذ .. ( الأول ) يتمتم بالقول : " وأنا من فين ؟ " ثم يجيب : " أنا أيضاً من عدن " وبدى عليه يقلٍّب كفيه مستغرباً للغة .. ( الثاني ) ومستنكراً متسائلاً : " وما دخل ما دار في الحديث للأنتساب بعدن ؟!" ثم أدار وجهه يساراً لعله يجد مني مايشجعه ، ولو بالايماء أو بهز الرأس .. وقد كان مني ذلك . فجأة طلب الرجل ( الأول ) من سائق الحافلة .. تجنيب حافلته .. في شارع الملكة أروى ، ثم ترجل .. إلى الشارع وفيه سار .. ، ولم أكن أعرف إنْ كان نزوله هناك حيث سكناه .. أو أنه أراد أن يقطع حواراً عقيماً ، لايجد من هو أهلاً له – وقد أزعجه ذلك الحوار - . كان .. ( الثاني ) قد أفسح ( للأول ) طريق الخروج من الحافلة .. ثم تحرك متوجهاً إلى أخرها ، وليقعد في آخر كرسي ، وهو يردد بالقول ( لمن بقى في الحافلة .. ) : " أنا كنت عاجز في الصف .. وأهرب لأجلس في الكرسي الأخير .. " إبتسم من في الحافلة .. ( مع قهقهة عاليه لصاحبنا ) وهو يمتد في الكرسي الأخير .. – وبما لايتناسب مع الموقف !! –، ذهبت فراسة سائق الحافلة .. لمعرفة حال الرجل في الكرسي الأخير وهو يعلق بالقول : " خليك في موقعك دائماً .. حتى لاتشوف الصواريخ تحرق كريتر .. أو تقفز من فوق الحافلة .. ". وفي المساء بينما كنت اتسوق ، رأيت في السوق الرجل المهندم ( الأول ) ؛ حييته وحياني وهو يضحك ، ثم قال : " شُفتْ بالله .. ويقصد حوار الحافلة .. " قاطعته بالقول المأثور( للأمام الشافعي ) " لو جادلني ألف عالم لغلبتهم ، ولو جادلني جاهل لغلبني ! " رد عليا بهز رأسه وهو يضيف بالقول : " وشر البلية مايضحك " وليجمل حالة الضحك التي خالطت حديثنا بهذا المثل ، ثم أنصرف كلً منا إلى حال سبيله في سوق عدن ؛ فتمنيت أن يكون الحوار دائماً خالٍ من المكابرة والعناد وأن يكون التسامح والتصالح ليس له علاقة بالجغرافية الضيقة ، وأن نقلع عن عادات سيئة نعرفها في أنفسنا ، ينهانا عنها ديننا الحنيف وأن يقلع ركاب الحافلة الكبيرة عن الصمت السلبي ، فكل حياتنا في حافلة واحدة ، يجب أن لا يغلبنا الصوت العالي ، فقد يكون مصدره متأفين ويجلس في المجلس الأول أو المجلس الأخير والطامة أن كان قائداً للحافلة. حرر بتاريخ : 22/يناير/2013م