قرأتُ المصحف بهذه النِّية باحثًا عن آفاق التغيير وسُنَنِه ونماذجه، فوجدتُ الكثير، وشعرتُ بالاغتباط وأنا أقف على كنوزٍ من الأسرار العجيبة. التحلُّل والتراجع والضعف سُنة إلهية، كما هي في الأجساد حين تكبر وتهرم، كذلك هي في المجتمعات والدول، تمهيدًا للزوال والانقراض. حتَّى الدول الراشدة الصالحة، وحكومات الأنبياء والخلفاء لا تدوم. التغيير الإيجابي يعالج هذه السُنَّة، ويفلح في تأخير السقوط؛ فقد تسقط الدولة في قرنٍ، وقد تَمتدُّ لخمسة قرون أو ستة. الذين يرفضون التغيير يَسْتَسْلمون لِحَتْمِية التراجع، ولذَا يسرعون السقوط، وربَّما هربوا منه إليه، فداووه بالتي كانت هي الداء! في القرآن التعبير ب«الأجل». فكمَا للإنسان أجل لا يُقدَّم ولا يُؤخَّر؛ {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]، فكذلك للمجتمعات أجل، وهذا في القرآن أكثر، وأنا بصدد حشد الآيات التي فيها الحديث عن آجال الأمم والأقوام، كما في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وبعض الآيات تحتمل هذا وهذا، كقول نوح عليه السلام: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[نوح: 4]. وهو إلى الثانِي أقرب؛ فالإمهال هنا للأُمَّة كلها بتأخير العذاب عنها. بعض الكيانات التي حانَ أجلها تُصارِع للبقاء، وتظن أنَّها بقوتها العسكرية وقتلها المزيد من الناس، أو أنَّها بآلَتِها الإعلامية التي تضلِّل بها المغفَّلين، أو أنَّها بقبضتها الأمنية التي تنشر بها الرعب؛ تحصل على الفسحة في الأجل! كلا.. فالسُنَّة والناموس أنَّ أجل الله إذا جاء لا يؤخَّر، والشيخوخة في حياة الدول كَهِي في حياة الفرد؛ ضعف في الخلايا، وتراجع في الأداء، ووهن في النفس، وانحدار لا يمكن تلافيه، يثقل السمع في الأمَّة فلا تسمع النَّذِير، ويضعف بصرها فلا ترَى الخطر القادم.. السنة الربانية تقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. هَذِه فرضية أنْ لو دام لهم الإيمان والتقوَى بِمُعدَّلِها المرتفع لتحقَّق لهم الوعد، على أنَّ دوام الحال من المحال، وتغيُّر الأجيال مُحَتّم بلا جدال. التحلُّل والزوال هو بفعل الإنسان قطعًا؛ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. بعض الأزمات عابرة للتَّنْبِيه؛ {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، ولذا تكون الأزمة تجديدًا لنسيج الدولة، وتحفيزًا على تغيير خلاياها الفاسدة، وإصلاح نُظُمِها، وضَخّ الدماء الشابة النشطة فيها. وبعضها أزمات مُقِيمة مستوطنة تفعل فعلها البطيء الخطير الذي يدركه العقلاء بِحِسّهم البصير، ولا يدركه غيرهم حتى تتحقق نتائجه فيظنونه مفاجأة أو نتيجة من دون أسباب. هنا «قانون السنة الإلهية» المحتمة يعمل في خط منتظم مؤكَّد.. يعمل في مجتمعٍ مسلمٍ كمَا يعمل في مجتمع كافرٍ، قانونه العدل والإنصاف، ولذَا يُرْبَط الزوال بالظلم. و«قانون الفعل البشري» فالناس يُفكِّرون ويخطّطون ويتحالفون ويتآمرون ويقاتلون ويتكلمون ويُهدّدون، ولكل امرئ إرادة وقدرة، تتَّفق أو تختلف عن إرادة الآخرين، ولكل شعب أو حكومة أو دولة إرادة وقدرة تتَّفق أو تختلف عن إرادة الآخرين، ومن هنا يبدأ الصراع بين هذه الإرادات.