هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    عناصر الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا وتختطف موظفا في العاصمة الموقتة عدن    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (الحلقة الخامسة والعشرون )
نشر في أخبار اليوم يوم 20 - 08 - 2012


بين الصبغة الاستقلالية والصبغة التقليدية
نحن نريد الفرد المسلم ، والبيت المسلم ، والشعب المسلم ، ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام ، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء ، نريد أن نفكر تفكيراً استقلالياً يعتمد علي أساس الإسلام الحنيف لا علي أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء ، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد.
لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية ، تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب ؛ واندمجت مصر بكليتها في الإسلام بكليته : عقيدته ولغته وحضارته ودافعت عنة وذادت عن حياضه وردت عنة عادية المعتدين ، وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها ، وأنقذته من براثن التتار وأنياب الصليبيين ، وردت الجميع على أعقابهم خاسرين ، استقرت فيها فيها علوم الإسلام ومعارفه ،واحتوت الأزهر أقدم جامعة تقوم على حياطتة ورعايته وحراسته ، وانتهت إليها زعامة شعوبه الأدبية والاجتماعية ، وصارت مطمح أنظار الجميع ومعقد آمالهم.
هذا الإسلام ، عقيدته ونظمه ولغته وحضارته ، ميراث عزيز غال على مصر ليس تفريطها فيه بالشيء الهين ولا إبعادها عنه بالأمر المستطاع مهما بذلت في سبيل ذلك الجهود الهدامة المدمرة . ومن هنا بدت مظاهر الإسلام قوية فياضة زاهرة دفاقة في كثير من جوانب الحياة المصرية : فأسماؤها إسلامية ولغتها عربية ، وهذه المساجد العظيمة يذكر فيها اسم الله ويعلو منها نداء الحق صباح مساء ، وهذه مشاعرنا لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل بالإسلام . كل ذلك حق ، ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزواً قوياً عنيفاً بالعلم والمال ، وبالسياسة والترف ، والمتعة واللهو وضروب الحياة الناعمة العابثة المغرية التي لم نكن نعرفها من قبل . فأعجبنا بها ، وركنا إليها ، وأثر هذا الغزو فينا أبلغ الأثر وانحسر ظل الفكرة الإسلامية عن الحياة الاجتماعية في كثير من شؤونها الهامة ، واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية ، وحصرنا سلطان الإسلام في حياتنا علي القلوب والمحاريب ، وفصلنا عنه شؤون الحياة العملية ، وباعدنا بينه وبينها مباعدة شديدة وبهذا أصبحنا نحيا حياة ثنائية متذبذبة أو متناقضة .
الإسلام بما فيه من روعة وجلال ، وبسلطانه الساحر العذب الجذاب ، وأصوله الثابتة المدعمة القوية ، وحجته البالغة يجذب إليه القلوب والمشاعر ، ويجعلنا نحن المؤمنين به في حنين دائم إليه . وهذه الحياة الغربية بما تحتويه من مباهج ومفاتن وبما لها من مظاهر القوة المادية تحاول أن تسيطر وتهيمن علي ما بقي لنا من شؤوننا الحيوية . هذا وضع مشاهد ملموس يراه ويعلمه كل ما يعنيه أمر هذه الأمة ، ولا بد أن ينتهي هذا التذبذب إلى استقرار ولابد أن يتغلب أحد الجانبين علي الآخر فلكل شيء نهاية !.
فنحن الإخوان المسلمين نشفق كل الإشفاق من أن تكون هذه النهاية هي التحلل مما بقي من مظاهر الإسلام والانغماس الكلي في الحياة الغربية بكل مظاهرها ، ولقد ارتفعت بذلك صيحات وقامت علي قواعده دعوات ، وسبقتنا غليه شعوب وحكومات ، وإن كان ذلك كله قد خفت وطأته الآن أمام ما يقاسي العالم كله من محن وويلات.
نحن نشفق من هذا المصير ، وندعو إلى أن تعود مصر إلى تعاليم الإسلام وقواعده ، تعتمد عليها وتستمد منها وتبني علي أساسها النهضة الجديدة وتركز عليها الأوضاع الاجتماعية في المستقبل إن شاء الله .
وإذ كان الإسلام يدعو إلى أن نأخذ من كل شيء أحسنه ، وينادي بأن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها ، ولا يمنع من أن تقتبس الأمة الإسلامية الخير من أي مكان ، فليس هناك ما يمنع من أن ننقل كل ما هو نافع مفيد عن غيرنا مفيد ونطبقه وفق قواعد ديننا ونظام حياتنا وحاجات شعبنا .
أما أثر هذا التذبذب في مظاهر حياتنا العملية فكبير واضح ، ولعلة مصدر كثير من المشكلات في التعليم والقضاء ، وفى حياة الأسرة وفى منابع الثقافة العامة وفى غير ذلك من الشؤون العامة ، هل هناك أمة غير مصر يسير التعليم فيها من أول خطواته على هذين اللونين من ألوان التربية ، فهناك التعليم الديني يتصل بنصف الأمة وينتهي إلى الأزهر ومعاهدة وكلياته ، وهناك التعليم المدني يتصل بالنصف الثاني ويتميز كل منها بخواصه ومميزاته ؟ وهل لذلك من سبب سوى أن السلسلة الأولى هي أثر الإسلام الباقي في نفوس هذه الأمة وأن السلسلة
الثانية هي نتاج مجاراة الغرب والأخذ عنة ، فما الذي يمنع من توحيد التعليم في مراحله الأولى على أساس التربية القومية الإسلامية ثم يكون بعد ذلك التخصص ؟ وهل هناك أمة غير مصر ينقسم فيها القضاء إلى شرعي وغير شرعي كما ينقسم القضاء المصري وهل لذلك سبب سوى أن القضاء الأول أثر الإسلام في الحياة المصرية والثاني وليد النقل عن الغرب والأخذ عنه ، وما الذي يمنع من أن تتوحد المحكمة على أساس اعتبار الشريعة الإسلامية هي شريعة البلاد ومصدر التقنين ؟
وهذه البيوت المصرية ، ألسنا نلمح فيها أثر هذه الحياة المذبذبة المتناقضة ، فكثير من الأسر المصرية لا تزال شديدة المحافظة على ما ورث من تعاليم الإسلام وآدابه في الوقت في الوقت الذي انسلخ فيه الكثير عن هذه التعاليم وخرج على هذه الآداب وغلبت علية نزعة التقليد في كل شيء بل جاوز بعضنا ذلك الحد حتى صار غريبا أكثر من الغربيين .
ولا بد من وضع حد لهذا التفاوت الغريب حتى نظفر بالأمة الموحدة ، فبدون الوحدة لا تحقق نهضة ولا تحيا أمة حياة الكمال .
لهذا يدعوا الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذي تعتمد علية نهضتنا هو توحيد مظاهر الحياة العملية في الأمة على أساس الإسلام وقواعده وبذلك تبنى مصر نفسها ، وتقدم للعالم كله أكمل نماذج الحياة الإنسانية الصحيحة.
وسيلتنا العامة .. بين جماعة وفكرة
الكلام عن الوسيلة العامة للإخوان المسلمين يقف بنا أمام هذه الدعوة كجمعية من الجمعيات التي تقوم بالخدمة العامة ، ثم يقف بنا كذلك أمامها كدعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب التي ترسم لها منهاجا جديدا تؤمن به وتسير عليه.
أ لا شك أن جماعات الإخوان تقوم بالخدمة العامة من بناء المساجد وعماراتها ، ومن فتح المدارس والمكاتب والإشراف عليها، ومن إنشاء الأندية والفرق وتوجيهها ورعايتها ، ومن الاحتفال بالذكريات الإسلامية احتفالا يليق بجلالها وعظمتها ، ومن الإصلاح بين الناس في القرى والبلدان إصلاحا يوفر عليهم كثيرا من الجهود والأموال ، ومن التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات لتوزع في المواسم والأعياد ، لاشك أن الإخوان يقومون بهذا كله ولهم فيه والحمد لله أثر يذكر، وقد تضاعفت نشاطهم في هذه النواحي مضاعفة ملموسة في هذا الدور من أدوار الدعوة بطبيعة التفات الناس إليها وإقبالهم عليها ، ووسيلة الإخوان في هذه الميادين التنظيم والتطوع والاستعانة بأهل الرأي والخبرة ، وتدبير ما تحتاج إليه هذه المشروعات من أموال من المشتركين تارة ومن المتبرعين أخرى إلى ما ينفع لمثل هذه المشروعات ، ولسنا نقول إن الإخوان قد اكتملت جهودهم في هذه الناحية ولكنا نقول انهم يسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال ، والله الموفق المستعان. هؤلاء هم الإخوان وتلك هي دعوتهم كجماعة من جماعات الخدمة العامة .
ب ولكن الإخوان كما علمت ليسوا كذلك فحسب ، ولكن لب دعوتهم فكرة وعقيدة يقذفون بها في نفوس الناس ليتربى عليها الرأي العام وتؤمن بها القلوب وتجتمع من حولها الأرواح : تلك هي العمل للإسلام والعمل به في كل نواحي الحياة .
أما الوسيلة إلى تحقيق ذلك فليست المال ، والتاريخ منذ عرف إلى الآن يحدثنا أن الدعوات لا تقوم أول أمرها بالمال ولا تنهض به بحال ، فهي تحتاج إلى مال في بعض مراحل طريقها ولكن محالا أن يكون قوامها ودعامتها، فرجال الدعوات وأنصارها هم دائما المقلون من هذا المال وسل التاريخ ينبئك ، وليست الوسيلة القوة كذلك فالدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح أولا وتناجى القلوب وتطرق مغاليق النفوس ، ومحال أن تثبت بالعصا أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والسهام ، ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها معروفة معلومة مقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات ...
وخلاصة ذلك جملتان : إيمان وعمل ومحبة وإخاء . ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان ، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء ، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها وان ناوأها أهل الأرض جميعا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا ؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها ويدعون الناس إليها فيؤمنون بها ويعملون لتحقيقها ويجتمعون عليها ويزدادون عددا فتزداد الفكرة بهم ظهورا حتى تبلغ مداها وتبتلع ما سواها ، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .
وليست دعوة الإخوان بدعا في الدعوات فهي صدى من الدعوة الأولى يدوي في قلوب هؤلاء المؤمنين ويزداد على ألسنتهم . ويحاولون أن يقذفوا به إيمانا في قلوب الأمة المسلمة ليظهر عملا في تصرفاتها ولتجمع قلوبها علية ، فإذا فعلوا ذلك فأيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل .. فإلى الإيمان والعمل وإلى الحب والإخاء أيها الإخوان والله معكم وتلك هي وسيلتكم والله غالب على أمره ..
في اجتماع رؤوساء المناطق ومراكز الجهاد
المنعقد بالقاهرة في
3 شوال سنة 1364ه
الموافق 8 سبتمبر سنة 1945م
مقدمة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين ..
أيها الاخوة الفضلاء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ، فقد خطر لي أن أشكركم على ما تجشمتم من مشقة وتحملتم من عناء وأنفقتم من نفقة في سبيل حضوركم هذا الاجتماع ، ولكنى سألت نفسي : أليس ذلك هو أيسر ما تقتضيه الدعوة من واجبات ؟ وإذاً ففيم الشكر ، وقديما قيل : لا شكر على واجب ، ولهذا عدلت عن أن أتقدم إليكم شاكرا ، ولكن ذلك لا يحول بيني وبين أن أتقدم إليكم مبشرا ، بما أعد الله لعباده العاملين المخلصين من عظيم الأجر وجزيل المثوبة متى عملوا واخلصوا واستجابوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ، فبشراكم أيها الإخوان .. إنكم ما خطوتم خطوة أو أنفقتم نفقة تبتغون بها إعزاز كلمة الله ونصر الدعوة والاجتماع على الحب في الله والتآخي في الله , إلا كتب الله لكم بها ، ورفع لكم بها في الملأ الأعلى ذكرا ، وصدق الله العظيم : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:121) , كما أني أتقدم كذلك مهنئنا بهذا الموسم , موسم عيد الفطر , سائلا الله تبارك وتعالى أن يعيده على الإنسانية التائهة بالهداية والتوفيق , وإن كان عيدنا الحقيقي يوم تنتصر دعوتنا , وتنهض دولتنا , وتعلو بنا كلمة الله في أرضه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
أيها الإخوة الأحبة الفضلاء ...
أي معنى جليل , وأي شعور نبيل يثيره اجتماعكم في نفس من يراكم , إذا اتصل شعوره بشعوركم , ونفذت بصيرته إلى أعماق نفوسكم , فرأى أي دافع كريم استولى عليكم فدفع بكم إلى هذا المكان ، ورأي أي تفكير سام بريء طهور تزدحم به في هذه الساعات خواطركم ، وأي جلال ووقار ورحمة وسكينة ورضوان تحف الآن بمجلسكم هذا وتتغشاكم في أماكنكم.
أمة جديدة :
جديدة في قلوبها النقية البيضاء التي يغمرها الإيمان واليقين جديدة في عقولها المشرقة المستنيرة بتعاليم القرآن الكريم , وهداية رب العالمين .
جديدة في آمالها وأمانيها التي لا تمت إلى الأنانية بسبب ، ولكنها تبقي الخير والسعادة للناس أجمعين.
جديدة في وسائلها الواضحة الصريحة العادلة الرحيمة التي تبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة وتنتهي بالإنصاف والعدالة الرحمة ، وتنتظر مثوبة ذلك في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
أيها الإخوة الفضلاء ..
اذكروا نعمة عليكم واقدروا أنفسكم واقدروا دعوتكم ، وأبشروا فالمستقبل لكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم ، وثقوا بأنكم تمثلون تمثيلا حقيقيا أمة وادي النيل التي يفوق عددها ثلاثين مليونا ، ومعها بقية الأمة العربية التي تناهز سبعين مليونا ، ومن ورائها العالم الإسلامي الذي يبلغ ثلاثمائة مليونا من المسلمين ، أنتم تمثلون هذه المجموعة من الناس تمثيلا حقيقيا صحيحا قد تنكره عليكم الجهات الرسمية والشكليات العملية ، ولكن هل يشك منصف عادل في أنكم هنا في اجتماعكم هذا تختلج نفوسكم بما تختلج به هذه النفوس جميعا من المشاعر؟ وتمتلئ رؤوسكم بما تمتلئ به هذه الرؤوس جميعا من الأفكار؟ وتنطلق ألسنتكم بما تردده تلك الألسن من الكلمات؟
ولو خُلّي بين هؤلاء وبين حريتهم لصافحت أيديهم أيديكم في حرارة وشوق ، وضمت صدورهم صدوركم في حب ولهف ، ودوّى هتافهم عاليا قويا مع هتافكم : الله اكبر ولله الحمد ، وهي الأخوة التي لا تنفصم والتي جمع عليها القرآن قلوب المؤمنين به في كل مكان ، وسجّلها لهم إذ يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) .
فيا أيها الممثلون الحقيقيون لخير أمة أخرجت للناس اسمعوا ..
أولاً ما هي دعوتكم؟
لقد أعلنتم من أول يوم أن دعوتكم "إسلامية صميمة" على الإسلام تعتمد ومنه تستمد ، وهتفتم بها من كل قلوبكم (الله غايتنا ، والرسول قدوتنا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا ..) ولكنكم مع هذا فهمتم الإسلام فهما شاملا :
1 فآمنتم به نظاما اجتماعيا كاملا يصحح للناس أوضاع مجتمعهم في كل شئ ، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون الحياة إلا تناولها ، وأوضح ما فيها من خير ليقبل الناس عليه ، وما فيها من شر ليجتنبوه .
2 وآمنتم كذلك بأن من واجب المسلم الحق أن يجاهد في سبيل هذا الإسلام حتى يهيمن على المجتمع كله ، ويحتل مكانه الذي هيأه الله له في دنيا البشر.
3 وآمنتم كذلك بأن ذلك أمر ممكن ميسور لو أراده المسلمون واجتمعوا عليه .
وقد تكون هذه الأمور الثلاثة محلّ خلاف بينكم وبين فريق من المسلمين أنفسهم ، فلا زال كثيرون لا يرون الإسلام إلا في صور من العقائد الصحيحة أو الفاسدة , والعبادات الكاملة أو الناقصة .. ولا يزال الكثيرون يرون أن الجهاد في سبيل هذا الإسلام أمر قد انقضى وقته ومضى زمنه .. ولا يزال الكثيرون يرون أن العقبات أمام المجاهدين في سبيل هذه الغاية أكبر من أن يزيلها شئ .
ولهذا القصور في الفهم والصغر في الهمم واليأس في النفوس استسلم كثير من الناس للأمر الواقع ، وظنوا أن ذلك يرفع عنهم اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ونسوا قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:97) ، فقمتم أنتم أيها الإخوان المسلمون تنفضون عنكم وعن الناس أوضار القصور والضعف واليأس ، وتنتظرون موعود الله تبارك وتعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41) .
بين دورين
لقد جاء الإسلام الحنيف يقرر للدنيا أعدل المبادئ وأقوم الشرائع الربانية ، ويسمو بالنفس الإنسانية ويقدس الأخوة العالمية ، ويضع عقيدة الخلود والجزاء دافعا إلى الأعمال الصالحة ومانعا من الفساد في الأرض ، ويرسم الطريق العملي لذلك كله في حياة الناس اليومية ثم في أوضاعهم المدنية ، ويحيى على ذلك القلوب ، ويجمع عليه الأمة ، ويقيم على أساسه الدولة ، ويوجب الدعوة إليه في الناس كلهم حتى لا تكون فتة ويكون الدين كله لله.
ومضت على هذا حياة المسلمين حينا من الدهر ، علت فيها دعوتهم ، وامتدت دولتهم ، وتمكن سلطانهم ، وسادوا أمم الدنيا ، وكانوا أساتذة الناس ، ووعدهم الله على ذلك أجمل المثوبة ، وحقق لهم هذا الوعد : (فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:148).
ثم اختلط عليهم بعد ذلك الأمر ، فاتخذوا الدين طقوسا وأشكالا ، والعلم والمعرفة جدلا ومراء ، ووزعوا مهمة الإصلاح لتكون أداة للدنيا ووسيلة للجاه والمال ، ففسدت النفوس أولا وتفرقت الكلمة بعد ذلك ، ودالت الدولة تبعا لهذا ، وطمع في المسلمين من لا يدفع عن نفسه ، فوقعوا تحت حكم غيرهم وسلطانه ، وتغّيرت تبعا لذلك كل أوضاع حياتهم الأدبية والعلمية.
وأراد المصلحون الغيورون أن يتداركوا الأمر ، فقامت طائفة تحاول إصلاح النفوس ، وقامت أخرى تحاول خدمة الشعوب ، واختصت ثالثة نفسها بتقويم أداة الحكم ،وأطلق كل على نفسه اسما يرضاه ووصفا يعجبه ، انتصر لمهمته ، وانتقص مهمة غيره ، وكان شرط هذا الاختصاص ليكون نافعا مفيدا أن تقوّى كل ناحية الأخرى وتكون سنادا لها ، فيدفع من يهيمنون على تربية النفوس أتباعهم إلى خدمة المجتمعات ، وهؤلاء ينبهون من معهم إلى أن صلاح المجتمع بصلاح الحكم ، حتى يتآزر الجميع على الإصلاح العام . وكان شرط هذا الاختصاص كذلك أن تقوم هناك الهيئة الجامعة التي تأخذ بأطرافه وتجمع بين حواشيه ، وكان شرط هذا الاختصاص أخيرا أن به الأكفاء المخلصون ، ولكن هذا كله لم يتوفر إلا نادرا ، والنادر لا حكم له .
مقاصد الدعوة ووسائلها العامة
وظهرت دعوتكم أيها الإخوان في ثنايا هذه السحب المتراكمة جميعاً , فلمعت كما يلمع البرق الوامض , ثم أنارت كما تنير الشمس المشرقة , تبعث في القوم النور والحياة واليقظة بعد طول نوم وخمود , فكانت أغراضكم وأهدافكم هي أغراض الإسلام الحنيف ومقاصده .
1 تصحيح فهم المسلمين لدينهم وشرح دعوت القرآن الكريم شرحا وضحا ، وعرضها عرضا كريما يوافق روح العصر ، ويكشف عما فيها من روعة وجمال ، ويرد عنها الأباطيل والشبهات.
2 ثم جمع المسلمين عمليا على مبادئ كتابهم الكريم بتجديد أثره البالغ القوى في النفوس .
3 ثم خدمة المجتمعات وتنقيتها بمحاربة الجهل والمرض والفقر والرذيلة ، وتشجيع البر والنفع العام في آية صورة .
4 ولن يستشعر أحد العزة والكرامة ويتذوق طعم الحياة الكريمة إلا إذا شبع بطنه واستغني عن غيره ، وتوفرت له ضروريات حياته ، وإلي ذلك نظر الإسلام فلم يهمل المعاني الاقتصادية ولم يتغافل عن الإصلاح المالي ، بل إنه وضع لذلك أفضل القواعد التي تنمي وحدة الأمة أفراداً وجماعات , وترفع مستوي المعيشة وتقرب بين الطبقات ، وتؤمن الجميع أنفسهم وزراريهم وأولادهم ، وتضمن لهم العدالة الاجتماعية الصحيحة ، وتوفر الفرص المتكافئة للجميع علي السواء .
لم يحتقر الإسلام المال ، ولم يزهد في الثروة ولم يحرم الطيبات , بل اعتبر المال من نعم الله الواجبة الشكر ، وقال النبي r : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، واستعاذ من العوز والفقر وقرنه بالكفر فقال : (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر) ، وحث بعد ذلك علي العمل والكسب ، واعتبر ذلك قربة إلي الله تؤدي إلي حبه ومثوبته ومغفرته . فقال رسول الله r : (إن الله يحب المؤمن المحترف) كما قال : (من أمسي كالاً من عمل يده أمسي مغفوراً له) ، وحرم السؤال والاستجداء لما في ذلك من مذلة وهوان .
ثم أوصي بعد هذا بالمحافظة علي هذا المال والاعتدال في إنفاقه وابتغاء أفضل السبل به فقال القرآن الكريم : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5) ، وقال : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) .
ثم لفت النظر إلي منابع الثروة وأصول طرائق الكسب من التجارة والزراعة والصناعة والثروات الحيوانية والمعدنية والمائية والهوائية والقوي الكونية ، وكل ذلك واضح في كتاب الله العلي الكبير ، وحث المسلمين علي استغلالها وتثميرها والانتفاع بها وعدم الغفلة عنها ، جمع لهم ذلك في إشارة واضحة , (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20).
ثم حرم الكسب الحرام كله إلي البغضاء والشحناء وفساد المجتمعات ، لأن الإسلام حين أراد لن يوفر للفرد وسائل الحياة والرفاهية أراد كذلك أن يوفر للمجتمع حياة التكافل والطمأنينة , ويقضي فيه علي فحش الأثرة والأنانية ، فحرم الربا وحرم النصب وحرم الاحتيال , ووضع في ذلك القاعدة المعروفة من تقديم المنفعة العامة علي المنفعة الخاصة دائماً ، فإذا تعارضت حقوق الفرد مع حقوق الجماعة أهدرت الحقوق الفردية وعوض عنها أصحابها ، وأقيمت حقوق الجماعة بما يوصل للخير العام .
ولم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد , ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات فانتقص من مال الغني بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد , وزهّده في الترف والخيلاء ورغّبه في الصدقة والإحسان , وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء وقرر للفقير حقاً معلوماً وجعله في كفالة الدولة أولاً وفي كفالة الأقارب ثانياً وفي كفالة المجتمع بعد ذلك . ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريراً عجيباً في دقته وشموله وآثاره ونتائجه ، وأقام الضمير الإنساني مهيمناً عليها من وراء هذه الصور الظاهرية . كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين ، وقد فصلت الحياة الاقتصادية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصر بين الاقتصاد والإسلام ، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها ، والعمل علي رفع مستوي المعيشة ، والتقريب بين الطبقات ، وتوفير العدالة الاجتماعية ، والتأمين الكامل للمواطنين جميعاً ، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله .
5 وإذا كانت هذه الأهداف جميعاً لا تتحقق إلا في ظل الدولة الصالحة وقد عرفتنا الأيام ألوان الحكومات التي تقوم علي غير النظام الإسلامي , فإذا هي جميعاً لا تزيد الأمر إلا شدة ، مع أن دستور بلاد الذي ارتضته نظاماً لنفسها يعلن في المادة (149) منه : (أن دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية ) ، فكان لابد أن تطالبوا بحق الإسلام في إقامة الحكومة التي ترتكز علي أصوله وأحكامه وتعاليمه , وشرط ذلك الحرية والاستقلال الكامل فكان طبيعياً أن يكون من أهدافكم كدعوة إسلامية صحيحة كاملة تحرير وادي النيل والبلاد العربية والوطن الإسلامي بكل أجزاؤه من كل سلطان أجنبي .
6 ودعوة الإسلام الحنيف ليست قاصرة علي شعب دون شعب أو قطر دون قطر فإن الله يقول لنبيه r : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سبأ:28) ، ويقول (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) ، ويقول : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم:1) ، وذلك أول أساس روحي وعملي ، وضع في هذه الأرض للوحدة العالمية التي يهتف بها الزعماء وتمهد لها المخترعات وتتجمع عليها أفكار الأرض وتتهيأ لها الشعوب والأمم في هذه الأيام , فمن دعواتكم أيها الإخوة الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي وفي بناء الحياة الجديدة للناس بإظهارهم علي محاسن دينكم وتجليه مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم بعد هذا الظمأ القاسي الذي التهبت به أكبادهم في هذه الحياة المادية الميكانيكية القاسية .
تلك هي مقاصد دعوتكم وأغراض هيئتكم ، كلها من الإسلام الحنيف لا تخرج عنه قيد شعرة و (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (لأعراف:43).
أما وسائلكم من هذه الغاية فهي وسائل الدعوة الأولي :
1 نشر الدعوة للتبليغ وتربية النفوس علي هذه التعاليم عملياً للتكوين.
2 ووضع المناهج الصالحة في شؤون الحياة للتوجيه والتقدم إلي الأئمة والهيئات النيابية والتنفيذية والدولية.
3 وفي أثناء ذلك من مهمتكم إسداء الخير والمعروف للناس .
هكذا كنتم منذ وضع الأساس الأول لدعوتكم في شهر ذي القعدة 1347ه ، 1928م , وعلي هذا ظللتم وثبتم وستظلون وتثبتون حتى يحقق الله وعده إن شاء الله .
وصفنا
وسيقول الناس ما معني هذا وما أنتم أيها الإخوان ؟ أننا لم نفهمكم بعد ، فأفهمونا أنفسكم وضعوا لأنفسكم عنواناً نعرفكم به كما تعرف الهيئات بالعناوين .
هل أنتم طريقة صوفية ؟ أم مؤسسة اجتماعية ؟ أم حزب سياسي ؟ كونوا واحداً من هذه الأسماء والمسميات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم .
فقولوا لهؤلاء المتسائلين : نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة :
طريقة صوفية نقية : لإصلاح النفوس وتطهير الأرواح وجمع القلوب علي الله العلي الكبير .
وجمعية خيرية نافعة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتواسي المكروب وتبر بالسائل والمحروم وتصلح بين المتخاصمين .
ومؤسسة اجتماعية قائمة : تحارب الجهل والفقر والمرض والرذيلة في أية صورة من الصور .
وحزب سياسي نظيف يجمع الكلمة ويبرأ من الغرض ويحدد الغاية ويحسن القيادة والتوجيه .
وقد يقولون بعد هذا كله لازلتم غامضين فأجيبوهم : لأنه ليس في يدكم مفتاح النور الذي تبصروننا علي ضوئه ... نحن الإسلام أيها الناس فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون .!
نحن ووزارة الشؤون الاجتماعية
أيها الاخوة الأحبة ..
على هذا الوضع الواضح الكريم نشأت دعوتكم ودرجت ،ثم أنشئت خلال ذلك وزارة الشؤون الاجتماعية وكان من مهمتها تنشيط أعمال البر وتشجيع الهيئات الشعبية والجمعيات الخيرية وإعانتها ماديا وأدبيا على ما هي بسبيله من عمل الخير ، ورأينا أن لا مانع من أن نتعاون معها في ذلك في الناحية التي تخصها من نشاطنا واتصالنا بها على هذا الأساس وأذنّا لشعب الإخوان أن تتصل بها كذلك ، واستمرت صلتنا بوزارة الشؤون على هذا النحو من التفاهم والتعاون إلى الآن ، حتى صدر القانون رقم 49 لسنة 1945م الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتبرع للوجوه الخيرية وفيه تحديد لمعنى الجمعية والمؤسسة . وبتطبيق هذا التحديد على هيئة الإخوان المسلمين نراه لا ينطبق عليها بحال فلا هي جمعية خيرية ولا هي مؤسسة اجتماعية وإن كانت تعمل الخير وتخدم المجتمع فإنها تعتمد في ذلك أولا على مال أعضائها وعلى ما يجمع من الجمهور.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فان هذا ليس كل أغراضها ولم تنشأ له خاصة . ولسنا نأبى أن نتعاون مع وزارة الشؤون في الخير وخدمة الناس فإننا نرحب بذلك ونوده ولكننا نريد أن توضع الأمور في وضعها الصحيح وألا نضع أنفسنا ودعوتنا التي وقفنا لها الدم والمال والحياة والأبناء وهي عندنا أمل الآمال في موضع يغل يدها ويحول بينها وبين العمل لتحقيق أغراضها والوصول إلي أهدافها .
هل يتوهم إنسان أن دعوة الإخوان وجماعتهم تكون في عرف القانون ومنطق الأوضاع السليمة الصحيحة وهي الهيئة التي تعمل لتنشر في الدنيا دعوة القرآن وتحيي أمته وتقيم دولته وتواجه الدنيا بتعاليمه لينعم الناس في ظله بما يحلمون به من سعادة وسلام , (قََدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) ، هذه الهيئة أيها الإخوان وهذا مقصدها هل يتوهم أحد أن تكون في عرف القانون وفي منطق الأوضاع كجماعة لتكفين موتي الفقراء ؟ وجماعة قطرة الحليب ؟ وجماعة أنصار الإحسان ؟ وعلم الله أننا لا نستصغر ناحية من نواحي البر ولا ننتقص عملاً من أعمال الخير مهما كان ، ولكن لكل مقام مقال .
لهذا رأي مكتب الإرشاد أن يعدل النظام الأساسي تعديلاً يوضح أهداف الدعوة ووسائلها وضوحاً ينص علي انفصال ناحيتي البر والرياضة في إداراتهما وحساباتهما عن الهيئة الرئيسية لها تسهيلاً لمهمة التعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية إن شاء الله من جهة ومع كل الهيئات التي تعمل لهاتين الناحيتين من جهة أخري . وسيعرض عليكم مشروع التعديل وقرار المكتب في هذا الشأن كله في نهاية هذا الاجتماع , (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4) .
ثانياً حقوقنا الوطنية
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني الذي اجتمعتم من أجله وهو التذكير بالحقوق الوطنية لوادي النيل وللعالم الإسلامي وتبيين طرق العمل لإحقاقها والوصول إليها فاسمعوا أيها الإخوان :
تأكدوا أن واجبكم أنتم في ذلك كأفراد وهيئة من أثقل الواجبات ، وأن تبعتكم من أعظم التبعات ، أنكم في ذلك تطالبون بأكثر مما يطالب به الناس ، وتحملون منه أكثر مما يحملون ، فلقد أراد الله ...
أن تستيقظوا حين كان يغطّ غيركم في نومه ...
وأن تؤمنوا حين كان يهيم سواكم في شكه ...
وأن تأملوا حين تغشت الناس سحابة اليأس ...
وأن تتجمعوا وقد تشققت العصا واختلف أمر الهيئات والأحزاب ...
أن يلتف الناس حولكم وتنتهي الثقة إليكم ويحف الأمل بكم حين فقد الناس أملهم وثقتهم , وكاد كل واحد يشك حتى في نفسه ..
ويظهر الله أمركم فلم يقف عند حدود مصر والسودان بل جاوزها إلى غيرها من الأقطار والبلدان .
ويشاء الله لكم بعد هذا أن تمر بكم عواصف هذه الحرب الضروس ست سنوات كاملة ، فتمزق من غيركم من الداخل والخارج ما شاء الله لها أن تمزق ، ولكنها تمر بكم أنتم مرا رفيقا يُقوي ولا يُضعف ولا يزعزع وينبه ولا يوهن ، ويزيدكم بنصر الله إيمانا وبرعايته ثقة لأنكم بكلمته تنطقون ولدعوته تعملون فأنتم لذلك على عينه تصنعون (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور:48) .
ومن هنا كان واجبكم أكبر الواجبات وكانت تبعتكم أثقل التبعات .
انتهاز الفرصة
ثم تأكدوا بعد ذلك أنها الفرصة السانحة التي لا تعوض ، وماذا تنتظرون بعد ذلك ، ولقد انتهت هذه الحرب الضروس وخرج منها الحلفاء بنصر لم يكونوا يتوقعونه ، وسلم لهم أعداؤهم بغير قيد ولا شرط ، وعرفت حكوماتهم وهيئاتهم وشعوبهم قيمة الوقت ، فلم يضيعوه سدي ولم ينفقوه هباء في الجدل الفارغ والخصومة القاتلة والنوم العميق ، ولكنهم كانوا يحاربون ويرتبون ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ، كان مؤتمر سان فرانسيسكو ومؤتمر بوتسدام ومؤتمر وزراء الخارجية في لندن ولم تبق عليه إلا ليال وأيام ، وفي خلال ذلك مقابلات واجتماعات وتصريحات وقرارات ، وخطب ومقالات ، وحكومات أثر حكومات ، وهكذا تسير الدول الكبرى وتتأهل الدول الأخرى ، في سرعة ويقظة واهتمام ، ويقرر مصائر العالم ويحدد مستقبل الأمم والشعوب في هذه الساعات الفاصلة في تاريخ الناس ، فإذا وقع الأمر فقلما يتغير إلا بالمجهود العنيف والدأب المخيف فما الذي تنتظرون ؟ والأمر أمركم وأنتم موضع البحث والتقرير ، علي مصالحكم يشتد الجدل والخلاف ، وإليها تتجه المطامع والآمال ، أفلا ترون بعد هذا كله أنها ساعات لها ما بعدها بل أنها أحرج الساعات في تاريخنا الحديث .؟
بين الوطنية والاجتماع
قال لي أحد أصدقاء الإخوان الذين لا يتهمون في رأي ولا في نصيحة منذ أيام قلائل : أليس الأروح للإخوان والأجدى علي الوطن أن تشتغل هيئة الإخوان بالأغراض الأدبية والاجتماعية والاقتصادية من برنامجها وهي من الإسلام أيضاً وتدع الناحية القومية أو الوطنية أو السياسية بعبارة أخري لسواها من الهيئات حتى لا يتعرض للعواصف القاسية هذا البناء العالي الذي أصبح للغيورين أملاً وفي تاريخ هذه النهضة عملاً ؟ .
فقلت له في صراحة وإخلاص وتأثر : والله يا أخي إني لأشاركك هذا الرأي ، وأجد في أعماق نفسي هذا الشعور قوياً عميقاً ، وأكره أشد الكراهية ما يصحب هذا النضال من مظاهر وآثار في النفوس وفي الصلات وما يجر إليه من نواحي الشهرة والجاه الكاذب الذي يلهي الناس عن الحقائق والواجبات ، وكم كنت أتمني أن تكون الظروف معي ومعك ، وأن تدع لنا الحوادث من الوقت ما يتسع لهذا الذي تحب وأحب ، وليس ذلك عن حب للراحة أو إيثاراً للدعة ، ولكن الأمور هي كما تري الآن :
الدول الكبرى وقد خرجت منتصرة تعمل جاهدة ليل نهار وتحاول بل تتعمد أن تتغافل عن حقوقنا وأن تنسي ما بذلت لنا من عهود ومواثيق والوقت يمر مر السحاب .
والهيئات السياسية عندنا قد غفلت عن هذا الواجب واشتغلت عنه بما تقرأ في صحفها وجرائدها من تنابز بالألقاب وتخاصم علي الأسلاب ، علي أن الحوادث قد أعانت ذوي الأغراض علي أن يفرقوا وحدتها ، ويفضوا الناس عنها ، ويظهروا رجالها أمام الرأي العام بمظهر الملوثين العابثين ، ففقد الشعب ثقته بقادته ، وخسر القادة الجنود ، والأنصار فقدوا هم أيضاً الثقة بأنفسهم والثقة بحقهم .
والشعور الوطني كما تري في ثورة وقوة وحماس وبخاصة في هذا النفر من الشباب المثقف ، وإن لم يكن في هذا الشعب كله الذي ألح عليه الفقر وأمضه الجوع والعري وأكل منه الغلاء والجهد ، وما لم تقده أيد حكيمة وتصرفه عقول مجربة فقد يسير في طريق لا تؤدي إلي نجاح ولا تصل إلي غاية .
وإلي جانب هذا الشعور الوطني هذا التهيؤ من جانب الأمة العربية وما جاورها من الإسلام للوحدة والاجتماع والرغبة في تنسيق الجهود والأعمال ، وليست هيئة من الهيئات أقرب إلي قلوب هذه الشعوب وأقدر علي الظهور في هذا الميدان من الإخوان .
كل ذلك يا أخي جعلنا وقد قضينا سبعة عشر عاماً في الإعداد والاستعداد ، وأفهمنا الناس فيها الأمر علي حقيقته ، من أن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن ، وأن حب الأوطان من الإيمان ، ولم يتبق بعد هيئة من الهيئات علي وحدتها وثقة الناس بها وأملهم فيها إلا الإخوان ، كل ذلك يا أخي جعلني أشعر شعوراً قد ارتقي إلي مرتبة الاعتقاد ، إننا لم يعد لنا الخيار ، وإن من واجبنا الآن أن نقود هذه النفوس الحائرة ونرشد هذه المشاعر الثائرة ونخطو هذه الخطوة والله المستعان .
علي أن هناك نظرة أخري ليست بأقل مما تقدم أهمية . ألست ترى يا أخي أن أهم عوامل الفساد والإفساد لحياة هذا الشعب المصري وغيره من الشعوب العربية والإسلامية هذا التدخل والتحكم الأجنبي الذي أفقدنا عزتنا ووجهنا غير وجهتنا وبدل أوضاع حياتنا وضحك علينا بالقشور وصرفنا عن اللباب ، ثم هذا الضعف المتناهي من هذه الحكومات التي جعلت من نفسها أداة طيعة إن لم تكن مسرعة في يد الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس كما يشاء وينفذ بها مطالبه وخططه كما يريد سافراً أو مستتراً .
أولست ترى أن أول باب للإصلاح أن نجاهد هذين المظهرين ، وأن يتحرر الناس من هذين النيرين ، وإلا فكل مجهود إلي ضياع ، وقد جربنا ذلك في أنفسنا وفي غيرنا ولمسناه وعرفناه ، فإذا لم ندخل علي القوم من الباب في هذه الفترة من الزمن فمتي إذن ؟.
والله يا أخي لو كنا أمة مستقلة تصرف أمورها حكومة يقظة لكان في كل غرض من أغراض دعوتنا علي حدة متسعة لكل أوقاتنا ومجهوداتنا ، فهذا الغرض العلمي من شرح دعوة الإسلام والكشف عما فيها من روعة وجمال ، وهذا الغرض الاجتماعي من مساواة المنكوبين ومعاونة البائسين ، وهذا الغرض الاقتصادي من استنفاد الثروة القومية وتنميتها وحمايتها ، كل غرض من هذه الأغراض يستغرق أضعاف وقتنا ويستنفد أمثال جهودنا ولكن ما كل ما يتمني المرء يدركه والله أعلم حيث يجعل رسالته .
وفي مثل هذه الساعات الهامة الفاصلة يكون هذا الجهاد الوطني فرضاً عينياً علي كل الأفراد والهيئات ... فقال ذلك الصديق الأخ في تأثر وحماس : صدقت سيروا علي بركة الله والله معكم.
أيها الاخوة الفضلاء ..
تأكدوا كذلك أن لبلادنا حقوقاً ومطالب قومية لم تنلها بعد ، ولا فائدة من ذكر العوامل التاريخية والحوادث التي أدت إلي انتقاص هذه الحقوق واغتصابها ، ولكن الذي يفيد ويجدي أن نؤمن إيماناً قوياً جارفاً بهذه الحقوق ، وأن نجاهد جهاداً داعباً عنيفاً في سبيل تخليصها والوصول إليها ، وبالإيمان والجهاد والأمل والعمل ننتصر ونصل إن شاء الله وما ضاع حق وراءه مطالب .
نحن حين نؤمن ونجاهد لا نعتمد في جهادنا علي قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل ، فنحن نعلم أننا عزل من ذلك كله ، ونشعر أعمق الشعور بما يكبل أيدينا وأرجلنا من القيود والأغلال الثقال ، وحسب العالم ما قاسي من الاعتماد علي القوة ونبذ القانون وإهمال قواعد العدالة والإنصاف ، ولكننا نعمد علي أن هذا هو حقنا الطبيعي الذي لا ينكره علينا إلا جاحد ومكابر ، فلسنا أمة بدائبة تحتاج إلي الرعاية والوصاية والتوجيه ولكنا أمة ورثت أمجد الحضارات وأعرق المدنيات وأنارت الدنيا بالعلم والمعرفة وحين لم تكن هذه الأمم الحديثة تدري من أمر الوجود شيئاً.
ونعتمد علي أننا ساهمنا في المجهود العربي بأموالنا ودمائنا وأبنائنا وأرضنا ومواصلاتنا وأقواتنا وكل مرافق حياتنا ، وعرضنا كل شيء للخطر الداهم ، ووقفنا إلي جانب الأمم المتحدة وقفات كان لها أثرها في هذا النصر ولا شك ، ولم نشأ أن نساوم في ساعة العسرة علي حق من حقوقنا أو نثير مطلباً من مطالبنا ، ولكنا تركنا ذلك كله وديعة بين يدي الضمير الإنساني العالمي معتمدين علي نبل حلفائنا وصدق وعودهم .
ونعتمد علي هذه العهود والمواثيق التي قطعها الحلفاء علي أنفسهم ومنها ميثاق الأطلنطي ، وتلك التصريحات والخطب ، والكلمات والنشرات التي أعلنوا فيها شعوباً وحكومات ، أنهم يحاربون في سبيل العدالة والتحرير ويريدون نصرة المظلومين وإنقاذ البشرية من العبودية والاستبداد ، وإنشاء عالم جديد يقوم علي التعاون وكفالة الحريات والقانون والإنصاف .
ونعتمد كذلك علي التطور في التفكير العالمي وهذه اليقظة في الضمير الإنساني ، ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسودها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية ، وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية ، وإذا كانت الدول المنتصرة تظن أن في استطاعتها أن تقود الدنيا من جديد بالحديد والنار ، فما أبعد هذا الظن وأعرقه في الوهم والخيال ، فإن موجة اليقظة التي أحدثتها هذه الهزات العنيفة لا يمكن أن يقف تيارها حتى يصل إلي غايته ويبلغ مداه ، ولن يستقر بعد اليوم في الأرض السلام إلا إذا أدركت الدول الكبرى هذه الحقيقة واعترفت لغيرها من الأمم والشعوب بحقها في الحياة والحرية والاستقلال .
ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك بحيث نعتقد أن في وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس و بمنأى عن الوحدة العالمية التي يتهيأ لها الأرض جميعاً والتي انطلق من حناجرنا نحن المسلمين أول من صوت يهتف بها ويدعو إليها ويتلو آيات الرحمة والسلام (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) ، ولكنا ندرك أن الدنيا لم تكن في حاجة إلي التعاون وتبادل المصالح والمنافع في يوم من الأيام كما هي في حاجة إلي ذلك الآن ، ونحن علي استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه ، في ظل مثل عليا فاضلة ، تضمن الحقوق وتصون الحريات ويأخذ معها القوي بيد الضعيف حتى ينهض .
مطالبنا
ونحن حين نطالب بحقنا لا نغالي ولا نتعسف ، ولا نريد علواً في الأرض ولا فساداً ، ولكنا نقف عند الحق الطبيعي الذي لا يمكن أن يحيا بدونه فرد أو شعب حياة عزيزة كريمة .
* وادي النيل
فنحن نطلب : لوادي النيل
1 أن تجلو عنه الجنود الأجنبية : فلا يكون هناك جيش احتلال في أية بقعة من بقاعه . وماذا تغني هذه الفئة القليلة من الجنود إذا فقدت الثقة وفسدت العلاقات وإرضاء النفوس والاعتراف بالحقوق هو أضمن وسيلة لتبادل المنافع والمحافظة علي المصالح .
2 وأن ترفع هذه القيود والأغلال التي فرضت علي تجارتنا وزراعتنا وصناعتنا إبان الحرب وقبل الحرب والتي قبلناها مساهمة منا في المجهود الحربي ، وأن تلاحظ الدول الأجنبية أننا أمة يتكاثر عددها باضطراد وتضيق بها أرضها وموارد ثروتها ، وأنه ليس من العدل أن يأخذ الأجنبي كل شيء أيضاً ، إننا لا نكره الأجانب ولا نريد أن نقطع صلات التعاون بيننا وبينهم ، ونحن نعلم تماماً أننا لا نستغني عن رؤوس أموالهم وعن خبرتهم الفنية ، ولكنا لا نريد كذلك أن يكون هذا التعاون علي قاعدة أن لهم الغنم وعلينا الغرم . والواجب أن تقدر كل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية . إن عددنا يكثر ومستوي المعيشة عندنا أقل منه في أية أمة من الأمم الراقية ، فأكثر من نصف المصريين يعيش أقل من عيشة الحيوان ، ومع هذا يفكر الأجانب في الهجرة إلي أرضنا وفي تقييد حريتنا في التصدير والاستيراد والتجارة والزراعة والنقد . ولا ينتج ذلك كله إلا حرج الصدور وإثارة الشعور ، والضغط الشديد يولد الانفجار .
3 وقناة السويس أرض مصرية حفرت بدماء مصرية وجهود أبنائها فيجب أن يكون لمصر حق الإشراف عليها وحمايتها وتنظيم شأنها ، ولقد قارب أمد امتيازها الانتهاء وتفكر بعض الدول في التدخل في شأنها أنها قد اشترت عدداً كبيراً من أسهمها . إن مصير هذه القناة إلينا بعد عدد قليل من السنين ، ومن واجبنا أن نتنبه لذلك من الآن وأن نطالب بزيادة عدد الموظفين من المصريين في الأقسام المختلفة وبخاصة الأقسام الفنية التي تحتاج إلي دراية ومران . يجب أن نستعد للمستقبل وألا ننتظر الحوادث حتى تفاجئنا ونحن علي غير استعداد . ويجب أن تعترف لنا الدول بهذا الحق الثابت وتقرنا عليه .
4 والسودان : لا نقول أننا نطالب بحق مصر فيه فليس لمصر حقوق في السودان ولكن السودان جزء من الوطن فهو مصر الجنوبية ومصر هي السودان الشمالي وكلاهما وادي النيل ، هذا كلام نريد أن يكون مفهوماً جيداً للدول الأجنبية كلها عامة ولإخواننا ومواطنينا أبناء السودان خاصة . إن النيل الذي تتوقف عليه حياة مصر أرضاً ونباتاً وحيواناً وأناساً إنما ينحدر إليها من السودان ومن مائه ومن طميه تكونت أرض الجنوب كما نشأت أرض الشمال ومنها نشأت هذه الجسوم وجرت هذه الدماء فنحن أيها الأخوة السودانيون من ماء واحد وطينة واحدة وإذا قال لكم قائل أن مصر تريد أن تستعمركم لتستغل أرضكم وتستغلي عليكم وتستطيل بالسلطان في أرضكم فقولوا أنها فرية كاذبة نحن نريد السودان جزءاً من مصر كما أن مصر جزءاً منه للسوداني ما للمصري من حقوق وعليه ما عليه من واجبات . إذا فتحت المدارس في مصر مثلها في السودان وإذا أنشئت المحاكم في الشمال أنشئت في الجنوب وتتوحد الجنسية ويتوحد القانون ويتوحد كل شيء في مظاهر الحياة الاجتماعية في جزأي الوطن الواحد وادي النيل . وإذا كان المغرضون قد استطاعوا أن يصوروا الأمور علي غير وضعها الصحيح فإن ذلك الباطل لا يغني من الحق شيئاً . لقد عملت الدعاية الأجنبية عملها في السودان ، ولكن إخواننا السودانيين مؤمنون وأذكياء وهم يشعرون تماماً أن ما يجدونه الآن من ملاطفة ولين موقوت إلي حين ثم بعد ذلك ينكشف الاستعمار عن الاستعمار ويتحقق لهم قول الله العلي الكبير: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34) . ولقد حاولت الإدارة السودانية أن تفصل السودان الجنوبي عن السودان الشمالي فصلاً تاماً ، والسودان الجنوبي هو منبع الثروة هو مستقرها في السودان كله فهو موضع الغابات ومرعي الحيوان ومستقر المعادن ، ولقد حجبته الحكومة عن أهل السودان الشمالي وضربت عليه نطاقاً من المراقبة الشديدة ، وحرمت الذهاب إليه حتى علي التجار من السودانيين أنفسهم ، وأطلقت فيه الدعاية التبشيرية من مختلف الإرساليات وجعلته نهباً مقسماً بينها ومع هذا كله فلازال الإسلام يشق طريقه إليه والله غالبٌ علي أمره ومن الغريب أن حكومة مصر لا تهتم لكثير مما يقع في السودان ولا تخطو خطوة إيجابية في سبيله ولكنا لن نسكت علي هذا الحال . ونعتقد أن الهيئات السودانية التي تطالب الوحدة التامة مع مصر إن وجدت هذه الهيئات لو علمت هذا الوضع الصحيح الذي نعلنه ونؤمن به ونعمل علي أساسه لبادرت بأسرع ما يمكن لإعلان هذا الرأي وتقريره ، فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن علي ماء النيل وهو حياتها فإن السودان أحوج ما يكون إلي مصر في كل مقومات الحياة كذلك وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك ، وذلك فضلاً عن وحدة اللغة والدين والمشاعر والمظاهر والأنساب والدماء . وسنظل نطالب بهذا الحق ونستمسك به حتى نصل إليه إن شاء الله لأنه حق والحق لابد أن يعلو ويظهر, (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.