ما أن يبدأ الحديث عن تونس أو يتجدد، كما هو اليوم مع ثورتها وتغير النظام فيها، حتى تهيمن على كل الخواطر، ضمن أشياء عدة، ذكرى شاعرها المعروف، "أبو القاسم الشابي"، فقيد الأدب والشعر في شرخ الصبا وأول العمر، وصاحب الأنشودة الخالدة "إرادة الحياة" التي تتردد منذ أنشدت.. على كل لسان.لم يبلغ الشابي السادسة والعشرين. وما كاد أن ينهي دراسته الدينية في الكلية الزيتونية عام 1927، حيث نال شهادة "التطويع" وكلية الحقوق عام 1930، حتى كان عليه أن يجابه شبح الموت خلال أربع سنوات!أعطت تونس الثقافة العربية العديد من الأعلام لعلّ أبرزهم ابن خلدون صاحب المقدمة والتاريخ، وابن منظور واضع قاموس لسان العرب، وابن رشيق صاحب "العمدة" في الأدب، وآخرون. وُلد شاعرنا، عَلَمُ الأدب التونسي الحديث، عام 1909. ويقول أبرز وربما أول كُتّاب سيرته "أبو القاسم محمد كرّو" في ترجمته للشاعر، "الشابي: حياته وشعره" (بيروت، 1952) أن من الخطأ الشائع على ألسنة الأدباء في الشرق قراءتهم لقب الشاعر "الشابي" بتخفيف الباء والصواب تشديدها!كان والد الشاعر قاضياً متديناً يقضي يومه بين المسجد والمحكمة والمنزل، ولم يعش أكثر من خمسين عاماً (1879 - 1929) وكانت وفاته أحد الأسباب المعجلة بوفاة الشاعر، لما ألمَّ به من حزن وما تراكم عليه من واجبات. كان الوالد قد تخرج من الأزهر بمصر، وعاد إلى تونس حيث قضى حياته المهنية في هذا المجال متنقلاً.بدأ شاعرنا تعليمه في "الكتاتيب" وهو في الخامسة من عمره، وأتمّ حفظ القرآن بكامله في سن التاسعة. ثم أخذ والده يعلمه بنفسه أصول العربية ومبادئ العلوم الأخرى حتى بلغ الحادية عشرة، وذلك قبل أن يلتحق بالكلية الزيتونية.وجد الشاعر في العاصمة التونسية الكثير من الحرية مقارنة بمسقط رأسه جنوبي البلاد. فهنا الكثير من الانطلاق والكثير من النشاط الأدبي مما لم يكن متاحاً له من قبل. ويصف مترجم حياته "كرّو" قراءاته التكوينية في هذه المرحلة، والتي نرى آثارها في شعره وفي قصيدته الخالدة بوضوح. فقد انهال أول الأمر على كتب المهجريين كجبران ونعيمة وأبي ماضي، يطالعها بشوق بالغ، فتشبع حسه الشعري بطابع المدرسة المهجرية، "التي تمتاز بصوفيتها الشعرية، ونقدها اللاذع، وحَدْبِها على الإنسانية المعذبة، وسخريتها المرّة بالحياة الراكدة والبشرية المتحجرة.ثم أخذ يطالع كل ما وسعه الوقت لمطالعته من كتب الأدب القديمة والحديثة، أما الدواوين فقد طالع جميع ما طبع من قديمها وحديثها. ولجهل الشابي باللغات الأجنبية، يقول "كرّو"، فقد قرأ أهم ما ترجم منها، فكان يعيد قراءة كتب "لامارتين" و"غوتة"، ويعجب بهما إعجابه بالمعري وابن الفارض. وإلى جانب ذلك كان يقرأ الصحف والمجلات كالهلال والمقتطف والبلاغ وغيرها.لم يكن الشابي بعيداً عن العمل الطلابي خلال دراسته في الزيتونة. ففي السنوات الثلاث الأخيرة من دراسته، "بذل الشابي نشاطاً أدبياً واجتماعياً كبيراً. فقاد حركة طلاب الزيتونة التي كانت تهدف إلى اصلاح التعليم والإدارة، وسير أعمالها بوطنية أعجب بها الجميع. وساهم في تأسيس "النادي الأدبي" بتونس العاصمة و"نادي الطلاب" ب "توزر" - بلدته - وكان من أبرز أعضائهما حيوية ونشاطاً.كان الشابي في الأصل ضعيف البنية، وكان فوق ذلك مصاباً بعيب خَلْقي في القلب. وتقول المراجع إن الشابي كان يعلم على إثر تخرجه في الزيتونة أو قبلها بقليل أن قلبه مريض، ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلا في عام 1929. وكان والده يريده أن يتزوج، فلم يجد الشابي للتوفيق بين رغبة والده ومقتضيات حالته الصحية بُداً من أن يستشير طبيباً في ذلك. وذهب برفقة صديقه "زين" العابدين السنوسي" لاستشارة الدكتور "محمود الماطري". فحذّر الشابي، بعد أن شرح له حقيقة ومخاطر مرضه، من الإجهاد الفكري والبدني، إلا أنه امتثالاً لرغبة والده، عزم الشابي على الزواج وعقد قرانه.تزوج الشابي قبل أن ينهي دراسته العالية، وترك بعد موته طفلين. وكان من نصائح الأطباء له، إلى جانب الأدوية، وتجنب الكتابة والقراءة والإرهاق، "أن يعيش في المناطق الجبلية والطبيعية، حيث الغابات والبساتين والوديان والأنهار".فمضى الشاعر، يقول مترجم حياته، "يجوب صيفاً وشتاء مناطق تونس الطبيعية الجميلة ذات المصائف الفاتنة والمشاتي الرائعة. وقد عاش شاعرنا ثلاث سنوات وحيداً بين أشجارها وأنهارها يتغنى مع الأطيار بحبه ويناجي النجوم بأمانيه، ويحنو على الورد والأزهار، ويطرب لخرير المياه وحفيف الأغصان. وفي هذه الفترة، أخرج الشابي أجمل قصائده الخالدة في وصف الطبيعة والجمال وسحر الوجود وحب الحياة".وعن آخر حياته القصيرة المعذبة، واصل الشابي إرهاق نفسه بما نهاه الأطباء عنه، "فاشتد به الداء وآلمه كثيراً، ونال منه العذاب والشقاء أكثر من أي وقت مضى. فثار على الحياة وملّ وجوده فيها، وأخذ يناشد الموت أن يريحه".وكتب في هذه المرحلة قصائد حزينة متشائمة تذكرنا ببعض قصائد "السياب"، الذي كالشابي لم يعش طويلاً وعانى من عذاب المرض قبل أن يرحل عام 1964 في الثامنة والثلاثين، والذي بعكس الشابي، فَقَدَ والدته في طفولته، وظل حرمانه من المرأة طاغياً في شعره، كما يقول بعض النقاد.وقع الشابي في شعره وأدبه تحت التأثير الشديد للأدب المهجري. فهو أثر يكاد يفوق أي عامل سواه. ويعود ذلك في رأي دارسيه إلى أن الشابي كان يكثر من قراءة هذا الأدب وحفظ أشعاره والعيش في عالم صوره. وهو عالم تتمازج فيه الثورة الجامحة والصوفية الحالمة والمثالية السابحة في دنيا الخيال والبحث عن الحب الخالص.وهكذا، كان الشابي في جميع ما كتب من شعر ونثر، شعلة تتقد فتنير مسالك الحياة وسبل المجد ومزج في نتاجه أدب المهجر بما طالع من أدب الغرب المترجم والأدب العربي القديم. وجمع بين شاعرية "جبران خليل جبران" و"غوته" و"لامارتين". وقد كتب في بحر إعجابه الشديد بأدب الغرب محاضرته المعروفة "الخيال الشعري عند العرب"، الذي طبع بتونس سنة 1929، حيث أنكر الخيال الشعري على الأدب العربي، محدثاً ضجّة كبرى في الأوساط الأدبية.ومن الأعمال الأدبية الأخرى لشاعر تونس الكبير رواية باسم "في المقبرة"، وقصة "جميل بثينة" ومحاضرة "الهجرة المحمدية" ومحاضرة بعنوان "شعراء المغرب الأقصى". ويقول "كرّو" إن أحداً لم يحضر إلى "النادي الأدبي" من أعضائه، سوى اثنين ذهبا معه! وقد سجل الشابي هذا الحادث في يومياته دون أن يعلق عليه. ولا عجب، فقد ضاق بشعبه في بعض مراحل حياته، وخاطبه بغضب الأدباء يائساً، "أيها الشعب! ليتني كنت حطّاباً فأهوي على الجذوع بفأسي! اشتهر أبو القاسم الشابي في العالم العربي بمطلع أو ببيتين من قصيدته "إرادة الحياة"، التي نظمها في 16 سبتمبر 1933، قبل عام من وفاته. وتقع في 53 بيت شعر، تبدأ ب "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر". وهي قصيدة جميلة يستنهض فيها الشاعر شعب تونس ويدعوه إلى تمزيق الشرانق من حوله وتكسير القيود من كل لون.ساءت حالهُ في آخر عام 1933 فلازم الفراش فترة ثم غادر بلدة "توزر" إلى العاصمة ودخل بعد فترة "مستشفى الطليان" في العاصمة التونسية قبل وفاته بستة أيام.نقل جثمان الشابي في أصيل اليوم الذي توفى فيه إلى مدينة "توزر"، فدفن فيها، حيث إن بلدة "الشابية" مسقط رأسه، هي إحدى ضواحي هذه المدينة بالجنوب التونسي. وهي بلاد جميلة فاتنة، يقول "كرّو"، "لما حوته من مناظر طبيعية رائعة". ويضيف "كرّو" إن الشاعر دُفن في مقبرة أسلافه، ولكن نظراً لقرب الصحراء من المكان، "فقد كادت الرمال الزاحفة أن تمحو قبره. ولقد زاره كثير من الأدباء، فهالهم أن يندثر قبره ولم تمض على وفاته عشر سنوات.فكتب بعضهم في الصحف والمجلات مستثيراً هِمَمِ الشعراء والأدباء من زملاء الفقيد وأصدقائه. فجمع الأدباء التونسيون أمرهم وألّفوا لجنة أقامت على قبر الشابي بناء فخماً لائقاً. لم يكن الشابي شاعر الوطنية المتقدة فحسب وإن اشتهر في هذا المنحى من الثقافة الأدبية، بل طرح في شعره الكثير من الأسئلة الوجودية وحيرة الإنسان أمام الحياة والموت.