أعاد احتشاد المصريين مجددا في الميادين العامة الأسبوع الماضي مشاهد الأيام الأولى لثورة 25 يناير التي مضى عليها ما يقارب 18 شهر جرى خلالها انتخاب مجلسي النواب والشورى والاستفتاء على إعلان دستوري ومؤخرا انتخاب رئيسا للجمهورية. وعلى الرغم من محاكمة رأس النظام المخلوع الذي يقبع في السجن إلا أن الخطوات التي اتخذها المجلس العسكري وتمثلت في «إعلان دستوري مكمل» استهدف نزع صلاحيات الرئيس، وحل مجلس النواب ومنح صلاحيات السلطة التشريعية للعسكر دفع قوى الثورة المصرية إلى النزول مجددا إلى الساحات العامة معلنين رفض الانقلاب الذي خطط له بقايا النظام. إذن فالبلدان التي عاشت فصول ثورات الربيع العربي لم تتخلص من أنظمة الحكم الجمهوملكية الشمولية، بل أطاحت برأس تلك الأنظمة واحتفظت ببقية الجسد الذي يعمل باستمرار على إعادة إنتاج نفسه بوسائل مختلفة ومتنوعة تتناسب مع خصوصيات كل بلد. ففي مصر واليمن كليا وتونس جزئيا لا زالت الأنظمة السابقة موجودة بهياكلها الكاملة وبناها القانونية والإجرائية، وبناء على ذلك لا زالت الإشكاليات عالقة وعصية على الحل بنسب متفاوتة، فمقابل ثقافة الثورة والتغيير تصارع البنى التقليدية من أجل البقاء شكلا ومضمونا. وبالنظر إلى تونس فقد سلم «بن علي» السلطة لمستشاريه وأركان نظامه لكن عملية الانتقال تمت من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وفي مصر سلم مبارك السلطة للمجلس العسكري الذي يؤجل تسليم السلطة كاملة حتى اليوم، وفي اليمن سلم علي صالح السلطة لنائبه الرئيس عبدربه منصور هادي الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام، وباستثناء الحالة الليبية التي شهدت سقوط نظام القذافي كاملا وتم تغيير العلم والنشيد الوطني، يجري الحديث عن نقل الحالة اليمنية إلى سوريا. وفي هذا السياق يرى الكاتب الفلسطيني محسن صالح في مقاله «السيناريوهات المستقبلية للثورات العربية» إن التغيير الذي حدث إنما مسَّ رأس النظام، كما حدث في تونس ومصر واليمن، بينما بقيت بنية النظام وشبكة مصالحه قائمة وخصوصاً البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية والقضائية، وهي بنى كما قال تشكل «الدولة العميقة» التي لا تزال تملك الكثير من أدوات القوة والضغط، والقدرة على تعطيل وإفشال أية تغيرات جذرية يُمكن أن تضرُّ بها. وأكد «محسن» وهو رئيس مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت على أن هذه القوى ستسعى إلى استيعاب حركات التغيير وامتصاص حالات المد الثوري. وقد تصبر قليلاً على عمليات التغيير التي تحدث، لكنها ستحاول إنهاكها وإفشالها بالانفلات الأمني، والتدهور الاقتصادي، واستعداء القوى الخارجية، والتحريض الإعلامي، وغيرها، ثم التقدم برموزها من جديد سواء على ظهر دبابة تقدم منقذاً عسكرياً، أو بناء على وصفة البنك الدولي لتقدم منقذاً اقتصادياً، وفي الحالتين تُسرق آمال الأمة في مشروع نهضوي تحريري حقيقي. ويذهب الكاتب الذي كتب في موقع «الجزيرة نت» إلى أنه وفي الحالتين سيتم تقديم بعض المكاسب السريعة بتوافق مع القوى الغربية التي ستدعم الخيارات المتماهية مع سياساتها، وإن كان سيتم عمل الديكورات المناسبة، لتعطي الوجوه الجديدة للأنظمة الفاسدة أطول مدة صلاحية ممكنة، قبل أن تعود الشعوب لثوراتها من جديد. ويندرج تحت هذا السيناريو حالة التدافع الهائلة التي نراها في مصر، وكيف يحاول المجلس العسكري امتصاص الثورة وإفراغها من محتواها، وكيف تمّت إعادة تقديم أحمد شفيق كمرشح للرئاسة، مع إبطال أول مجلس شعب حقيقي تنتخبه مصر في تاريخها، ومحاولة نزع صلاحيات الرئيس المنتخب. ولأن القوى العظمى لا ترى إلا مصالحها فإن الاحتيال على إرادة الشعوب أصبح صفة ملازمة لهذه القوى التي تحاول الحفاظ على مصالحه في المنطقة العربية من خلال الإبقاء على حلفائها التقليديين وهو ما يؤكده الكاتب المصري «وحيد عبدالمجيد» عضو مجلس الشعب في صحيفة الاتحاد الإماراتية إذ يقول: «لذلك، وتأسيساً على أن روسيا يمكن أن تقبل تغييراً يضمن مصالحها في سوريا، فهي تفضل صيغةً لنقل السلطة وفق نموذج «الحل اليمني» الذي يستبعد الرئيس ويبُقى نظامه معدلاً ويحافظ على سياسته الخارجية بصفة خاصة». ويضيف: «وربما يكون وجود مثل هذه الصيغة في سوريا هو المدخل الوحيد للتغيير الذي تقبله روسيا ويضمن لها مصالحها ويطمئنها إلى أنها لن تفقد الموقع الاستراتيجي الوحيد الذي بقي لها في منطقة الشرق الأوسط». اليمن.. وحده الوقت الذي يتقدم وفي الحالة اليمنية لم تفعّل بعد مرحلة الحوار الوطني الشامل بالشكل المطلوب ويبدو أن عمر المرحلة الانتقالية المحددة بفبراير 2014 ستنتهي دون إنجاز الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية.. بمعنى أن اليمن ستواجه الانتخابات بعد سنة ونصف من الآن ولا يزال جسم نظام صالح قائماً. وبالعودة إلى الكاتب الفلسطيني فإنه يرجح سيناريو يعتمد في تحديده على عوامل أبرزها: قدرة حركات التغيير على الاحتفاظ بزخمها الثوري، والتفاف الجماهير حولها حتى استكمال عملية التغيير. وقدرة حركات التغيير على تقديم رموز وقيادات شعبية كاريزمية، ذات قدرة على قيادة مسار التغيير، ومَلءِ الفراغ السياسي. بالإضافة إلى قدرة حركات التغيير على تكوين تحالفات وطنية واسعة، تتجاوز المناكفات والابتزاز السياسي، وتقطع الطريق على فلول النظام السابق، وعلى محاولات التمزيق والتفتيت، وعلى الحروب والأزمات الداخلية. ويركز محسن صالح على قدرة حركات التغيير على تحييد العامل الخارجي (خصوصاً الأميركي) في التأثير على صناعة القرار الوطني. كما لا ينسى الإشارة إلى قدرة حركات التغيير على تحقيق نجاحات ملموسة لدى المواطن العادي، وخصوصاً في مسارات الأمن والاقتصاد ومكافحة الفساد وصيانة الحريات. وفي الحالة السورية يذهب الكاتب والسياسي «وحيد» في مقاله «متى تغير روسيا سياستها السورية؟» إلى أن ما تريده روسيا في المحصلة هو أن يظل لها موضع قدم استراتيجي في المنطقة انطلاقاً من سوريا، بما يستلزمه ذلك من أن تكون لها الكلمة الفاصلة في رسم معالم الوضع الجديد في هذا البلد، خصوصاً على صعيد سياسته الخارجية. ويؤكد على أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود خطة تنظم عملية نقل السلطة بطريقة لا تؤدي إلى تغيير جوهري في سياسة سوريا الخارجية. ويتطلب ذلك تحديد مواصفات معينة للحل الذي يتم على أساسه نقل السلطة. ويبدو أن روسيا تفضل منهجاً معيناً للتغيير قد يكون هو السبيل إلى تجنب انتقال السلطة إلى قوى تخافها موسكو، بحسب «وحيد» الذي يضيف بأن روسيا تعرف ما لا تريده، وهو انتقال السلطة إلى نظام يقوم «الإخوان المسلمون» بدور رئيس فيه ناهيك عن أن يكون إسلامياً، أكثر مما تعلم ما تبغيه على وجه التحديد. القوى الغربية تحتوي نتائج الثورات وبناء على القراءات السياسية ومفردات الواقع فإن ثورات الربيع العربي لم تنجز أهدافها كاملة، وهو ما أشار إليه المحلل السياسي محسن صالح بالقول إن عملية التغيير السلمي في تونس ومصر واليمن أبقت بدرجة كبيرة على «الدولة العميقة»، وأبقت الكثير من «فلول النظام» في مواقع فاعلة ومؤثرة. وتحدث «محسن» عن فشل قوى التغيير حتى الآن من تحقيق نتائج حاسمة في عدد من الدول، ولم يحصل أي من أحزابها أو اتجاهاتها على أغلبيات واسعة، تمكنها من تنفيذ برامجها ودونما مشاكسات أو تعطيل من القوى الأخرى، ولم تنجح حتى الآن في تقديم قيادات ذات كاريزما عالية تكون محل إجماع الجماهير. بالإضافة إلى قدرة القوى الغربية على التأثير الكبير في دول ثورات الربيع العربي. وبالتالي فإن السيناريو الذي يتوقعه المحلل السياسي «محسن» في المدى القريب سيكون السير باتجاه: عملية تغيير وإصلاح محدودة ودون الطموحات، باتجاه تشكيل أنظمة ديمقراطية غير مستقرة. ويتوقع أيضا استيعاب الإسلاميين في المشهد السياسي، ودخولهم في اختبارات وتحديات قاسية ستشكل سلاحاً ذا حدَّين، فإما أن تكون فرصة يتمكنون فيها من تطوير قدراتهم وزيادة خبرتهم وتوسيع شعبيتهم، وإما أن تزول «الهالة» عنهم ويتضاءل حجمهم، نتيجة أخطاء أو ممارسات قد يقعون فيها، فضلاً عن أن الآخرين لن يتوقفوا عن محاولات «شيطنتهم» وإفشالهم. كما يرى أن المنطقة ستدخل في حالة من عدم اليقين، تكون أشبه بمرحلة انتقالية، في ظلّ استمرار حالة التدافع بين قوى التغيير وبين «الفلول» وبين القوى الخارجية. لكنه يؤكد أن حالة عدم الاستقرار لا تفتح المجال أمام فرص عودة الأنظمة السابقة بلباس جديد فقط، ولكنها قد تفتح المجال أيضاً لحالات إحباط واسعة وردود فعل عنيفة على شكل اندفاعات ثورية جديدة أكثر قوة واتساعاً وحسماً. استمرار المخاوف على الثورة ويدرك المتابعون والمراقبون للمشهد اليمني أن الموقف الإقليمي والدولي كان متآمرا على قوى الثورة لمصلحة نظام صالح الذي سعى بعد المبادرة الخليجية واتخذها مطية لإطالة عمره في السلطة وهو ما حدث بالفعل، وقد خططت القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا ومن خلال المملكة العربية السعودية على نقل السلطة داخل النظام نفسه خوفا من البديل المتوقع في حال إسقاط النظام كاملا. وبالنظر إلى معطيات الواقع ومؤشراته فلا زال الثوار في الساحات كما أن الإرباك يحكم المشهد السياسي ونسبة المخاوف من الالتفاف على أهداف ثورة الشباب الشعبية السلمية لا زالت واردة وهو ما يتطلب تفعيل الإرادة الثورية كحائط صد يحمي مكتسبات الثورة وينتصر لدماء الشهداء من خلال الضغط لاستكمال تحرير الجيش والأمن من قبضة العائلة في المدى القصير وإنجاز عملية الإصلاح السياسي وفقا لما نصت عليه المبادرة الخليجية.