ضباب كثيف وطقوس مختلفة مع غروب شمس تلك الليلة ليقف جبل ردفان كرجل طاعن في السن بحلته المخيفة وهو يتمتم تراتيل الاستقلال بلغة الذئاب الحمر المحلية التي لا يفهم منها الأعداء إلا صيحات البارود وعزف المدافع ما يجعل الأرض تتراقص بخفه تسقط الضباع المتشبثة بأمل البقاء المستحيل والصراخ والعويل المكتوم بسيمفونية الحرية المتصاعدة!، وعلى غير العادة المصابيح مشتعلة - هكذا همس الجندي في أذن عقله وهو يحث السير نحو المدينة المخيفة في تلك الليلة العجيبة. لم يطل بحثه عن الرجل المقصود إذ أشار له احد المارة إلى الناحية المظلمة في نهاية الساحة الصغيرة التي يقترب منها بخطى متثاقلة وأنفاس مرتعشة تشق طريقها على شفاءه غير متناهية من تاريخ كفاح اليمنيين ضد قوى الاستعمار البغيض في بداية الملحمة المسلحة المختصرة بعبارات بسيطة جمعتها رسالة صغيرة يحملها للرجل العجوز العائد من انتصاراته الجمهورية في رحلة العبور إلى الحرية. تسارعت الأحداث وتقهقرت الجيوش الملكية وما يسمى بحكومة الإتحاد ، وتوسعة دائرة التحرر في الجنوب اليمني مع التدفق المستمر لرجال التحرير القادمون من الشمال ومع كل صباح يقترب الذئاب الحمر من اليوم الموعود بلهفة العاشق القابض على الجمر في معركة الإرادة الشعبية من أجل إسقاط التبعية والوصاية الاستعمارية. ومع الأيام لاحت بوادر النصر لثورة 14 أكتوبر متحققة بفك الارتباط النهائي عن الإمبراطورية البريطانية الحكمة في جنوب ارض السعيدة وتلهث الثوار الصعداء مع إعلان الانفصال الكامل عن ماضي الخنوع والقهر والتشرذم الاستعماري العسكري وما صاحبه من فرقة وخلاف في دويلات متناحرة يحكم كل إقطاعية منها سلطان فاقد للسلطة. قد ينتقد البعض تسمية الثورة وربطها بالانفصال وفك الارتباط لكن المقصود هو الحقيقة التي تمرد عليه الثوار وواقع انحطاط اللحمة الوطنية بين مكونات المجتمع الجنوبي معززة بالمنهجية التي اتبعتها الحكومة البريطانية في إدارة الجنوب، ما يعني أن ثورة 14 أكتوبر هي ثورة انفصالية عن ماضي بغيض فك اليمنيون فيها ارتباطهم بعوامل الفرقة والخلاف بين مكونات الجنوب ومكونات الشعب اليمني ككل. أيقنت أخيراً الحكومة الملكية انتهاء وجودها على الأرض المقدسة وفشلها الذريع في سحق الذئاب المتمردة في جبال ردفان وتبين لبريطانيين استحالة بقاءهم بعد أن تحول أبناء اليمن إلى ذئاب حمر تروي الأرض بدماء الحرية، وتنهش في جسد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بمخالب الشجاعة فتتساقط جماجم الغزاة مخلدة الأعظم ملاحم العصر بما يعرف ب«متحف الرؤوس البريطانية» المعلقة في جبال ردفان العتيقة كشاهد على عظمة المقاومة وتضحيات الرجال الفريدة.. قطع صوت العجوز رحلة الجندي المخيفة في المستقبل ليتدارك الموقف ويلملم قواه المبعثرة في سنين لم تأتي بعد ،لتكلل محاولاته بالنجح حين تسلم العجوز رسالة المستر ميلن الضابط السياسي البريطاني و كان خطابه بمثابة إعلان الحرب بين الذئاب الحمر والبريطانيين بعد الرد المتحدي الشجاع والذي أهان كبرياء المحتل وأوقف العنجهية الملكية. غادر الجندي القرية المخيفة بسرعة لكن المشاهد التي رآها في حلم اليقظة أصبحت قصص تروى بين أوساط الجنود البريطانيين وحكايات تتناقل وتسافر مسافات بعيدة لتكرر حتى في قبة البرلمان الإمبراطوري أو ما يعرف بمجلس العموم في لندن، وكان للقصص تأثير كبير على عقول البريطانيين حتى أنهم أطلقوا على ثوار ردفان تسمية حقيقية تعظم صمودهم وتعبر عن قوة المقاومة وهي "للذئاب الحمر". أنصفت الحكومة البريطانية الشعب اليمني وثوار 14 أكتوبر بإطلاقها الذئاب الحمر وما تحمل هذه التسمية من دلالات تثبت ذلك حيث تعتبر الذئاب الحمر نوعاً خاص من فصيلة الذئاب تمتزج فيها أعرق الفصائل وتنتج ذئب أحمر يتميز بقدرات خاصة تتعدى الشجاعة والسرعة والقوة إلى القدرة الفريدة على الوقوف والإرتكازا على أطرافه الخلفية لمراقبة محيطه، مما يبقى أمر استثنائيا في عالم الذئاب. نعم هي ذئاب حمر جمعة بين النضال في شمال الوطن ضد قوى التخلف والرجعية وفي الجنوب ضد قوى الاستعمار لتستمر حكاية الكفاح وملاحم التحرر اليمني في وجدان الأجيال الوفية لذكرى أبطال التحرير وشيخ الثورة زعيم الذئاب الحمر الجد راجح لبوزة عليهم جميعاً السلام والرحمة في ذكرى الثورة الخالدة.