في كل يوم كنت أفر مساء إلى سطح منزلي وأتحدث مع قمر القرية. قمر القرية شاب لا يشبه هذه الكهول التي هزمتها الأنوار المزورة وأكلتها جدران الأسمنت. تنطفئ السنون تتبعها سنون ولازال قمرنا يمدنا بالحنان والحب كما لو أنه يدرب ذاكرته يوميا كي يتذكر أسماء سماره ويطمئن على بقايا الحب بالرغم من تواطؤ السنين ضدنا وضد الحياة . كنت أفكر لو أني أستطيع قراءة السطور التي دونها وهو يراقبنا ويعتنقنا جيلا بعد جيل , هذا المعمر يختزن الكثير من حكايا العاشقين والحب وحين نتمكن من التلصص عليها أعتقد أن هذا العالم سيضيء وسيفيض بالحب. لا شيء في القرية أجمل من قمرها, في الحقيقة القمر المنير هو كل ما تملكه قريتنا من وسائل الرفاهية ربما لأنه ارتفع بما يكفي كي يحمي نفسه من سطوة البشر. لا شيء أجمل من القمر على صحن خدها وهي تناجيك ولا أجمل منه سميرا يخدش حياء الليل . حتى البهائم هنا يدهشها القمر!! كنت مستلقيا على السقف أتأمل خيوط الضوء المسكوبة من القمر أسمع هتاف كلب ليجيبه آخر آخر بنفس الوقت كأنما يرد على سؤال أو يستجيب لنداء, وكانت الحمير تفعل ذات الشيء وكنت أشعر بحنان من نوع ما تتبادله هذه الاصوات! هل كان شيئا من الحب؟ لست أدري! الحيوانات تفتقر للإنسانية, لها قوانينها الصارمة التي لا تهتم فيها لاعتبارات الإنسانية والشفقة والحب أو هكذا تعلمنا. النحل مثلا - ذلك المخلوق المثالي في نظرنا - يقتل العجزة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة, يقتلها دون شفقة ولا إنسانية, لا مكان فيه لضعيف أو معوق أو مشلول. ذوي الاحتياجات الخاصة فكرة تبدو غبية عند النحل والحيوان عموما, هذه الفئات الغير منتجة يرميها خارج الأسوار بلا شفقة ولا إنسانية. هذا هو جوهر الفرق بين الإنسان وغيره من المخلوقات, ذلك الرصيد من الأخلاق والقيم والشفقة والحب والمسئولية. رصيد الإنسان الأخلاقي الممتد عبر الزمن لم تفهمه نظرية دارون ولم تقدم له تفسيرا مفهوما, ظل الإنسان ثابتا في أحاسيسه ومشاعره عبر الزمن, والتاريخ يؤكد أن الإنسان القديم يتفاعل مع الورد والزهر ويشعر بالحب تماما مثل إنسان اليوم.ولم تفسر سر هذا الفقر الأخلاقي لدى الحيوان. هل كان الدين هو المعين الذي زود البشر بهذا الرصيد, وهل تنازلت الحيوانات عن الدين بينما لم تعثر البشرية عبر تاريخها الطويل على مجتمع بلا عبادة أو معبد! الإنسان لاشيء سوى حزمة من الأحاسيس كما يقول هيوم. هذا الإنسان الهيومي يختفي اليوم ليظهر بديلا عنه إنسان دارون. لكنه بالرغم من كل شيء لا تزال القرية أكثر إنسانية وتماسكا من مجتمع المدينة ولعل الحيوانات تحاكي هذا الترابط وتتعلمه! الناس في قريتنا بسطاء حد الغباء!! الدولة لم تمنحهم شيئا واحدا وهم يتدبرون أمورهم دون تذمر ولا ضجر, المدرسة ومشروع الماء والطريق كلها من هبات المواطنين, أي أننا في علم الاجتماع السياسي نعيش ما قبل الدولة. في الحقيقة لقد فقدوا – ربما تماما - إحساسهم بالدولة وحضورها وأن لاشيء يسوق الماء إلى هذه الأرض الجرز. كان الشيخ هنا يعني الدولة , كل شيء يجب أن يمر عبره, لكن مشايخ العدين إجمالا لا يمر عبرهم شيء على الإطلاق. خاطب أحد الرعايا شيخه " أنت مثل ضوء القمر منتشرا في كل مكان ولكنه لا يكفي لأن تنقش على ضوئه شوكة ". في الحقيقة هم ليسو أقمارا عديمة المنفعة بل ثقوب سوداء لا يمر عبرها نحو المواطن شيء سوى فصول من المعاناة والتعب. ولهذا تحول المواطنون إلى رعايا ومات إحساسهم بالوطن الذي ربما يزورهم كئيبا على هيئة شيخ بأوداج منتفخة وبطون مثقلة بأمعاء غليظة جدا!! لم يزر منطقتنا شيخ أبدا - على الأقل هذا في ذاكرة الجيل لم يحدث – فقريتنا أقل من أن تحتمل تكاليف خروج شيخ كي يزورها لأن خروج الشيخ يقتضي نوعيات من العسل والقات وطقوس ضيافة أكثر من أن تحتملها القرية الفقيرة والمجهولة. في النتيجة غابت الدولة وغاب الشيخ وبقيت القرية في "المجهول" تماما مثل الكثير من أبنائها الذي يعيشون دول الجوار بهذا التعريف اللئيم " مجهول "وكأن لفظة "مغترب" لا تكفي. في مجتمع من هذا النوع ستجد صعوبة في أن توضح للناس فلسفة برتراند راسيل في تماسك المجتمع الدولة والبحث عن دور للفرد !! أو نظريات توماس هوبس عن الخوف البدائي الأول الذي قاد المجتمعات لتطور شكلا للدولة وكيف أن روسو قد اخترع العقد الاجتماعي و لماذا اعتبر فولتير منظر الثورة الفرنسية , بالرغم من أنك تجد نفسك تماما عند إنسان الكهف. في عام 2007 م كنت مع والدتي - رحمها الله -في القاهرة في رحلة للعلاج , على ظهر اليخت وبعدما ابتدأت الفتيات بالرقص كانت أمي تعلن عن خوفها من أن النيل سيبتلعنا لأنه سيغضب من هذه المعاصي على ظهره وهو جندي من جنود الله وكنت أنا أطمئنها بأن النيل يسمح بأكثر من هذا ولقد تعود على هذا اللون من السهر. كانت أمي- سابقا - تقارن بين عسكري الامام الذي أفزع طفولتها وهو يطلب أن يدقوا الباب كي يدخل وبندقيته بشكل أفقي وبين عهد صالح الذي أصبح ممكنا لمواطن أن يقول للعسكري بصوت عال " مظمر ستين تظميرة " ,, لست أفهم ماذا تعني الكلمة وما إن كانت تكتب بالضاد أم بالظاء لكني أتذكر أمي وهي تحكي لنا بنشوة المنتصرين هذه المقارنات التي كانت تجعلنا - صغارا- نشعر بالامتنان للثورة الأم. بعد عودتها كانت قد انتقلت مقارنتها بين مدينة كالقاهرة وبين قريتها التي لا تحضر فيها الدولة على الإطلاق, كل أشكال التطور في القرية لم تسهم فيها الدولة بشيء وقريتنا على وجه الدقة لازالت تعيش عصور الظلام. المفارقة المزعجة أن كثيرين - ومن ضمنهم صالح نفسه - لم ينتقل بعد لهذه المقارنة شديدة البساطة والوضوح . هذا المجتمع مريض أو هو بالتعبير الأدق ضحية ويحتاج حقا إلى قدر كبير من العلاج. مريض بالخوف, مريض بالجهل, مريض بالنسيان وفقدان الذاكرة! "الحيوانات تمرض ولكن الإنسان يمرض جذريا "هكذا قال اوليفر ساكس في كتابه "الرجل الذي حسب زوجته قبعة" وكان ينقل أشكالا غريبة من الأمراض العصبية. ونحن بحاجة إلى أطباء ماهرين كي يفكوا هذا النوع من العقد المتعلقة بالخوف و التنازل المجاني الغير مفهوم عن الحقوق. في كتابه مستقبل الفيزياء كان أستاذ الفيزياء الدكتور Michio Hahu يتحدث عن مشكلة في التركيبة النفسية في الانسان أطلق عليها إنسان الكهف الذي يصر على التعامل بالوسائل القديمة ومهتم جدا بطبع الرسائل الالكترونية وأرشفتها وأنه لم يثق بعد بأساليب التقنية في الحفظ والأرشفة, هذا الإنسان كان قبل سبعين ألف سنة أي قبل كتابة التاريخ وقبل أن تخترع فكرة الدولة. في قرية كالعدين وفي زمن مثل زمن صالح يمكنك أن تجد إنسان الكهف ذاته دون هذا النوع من التعقيدات التي خلقتها الفيزياء لمجتمع الصناعة أعني مجتمع الشركاتية وما بعد الشركاتية, أعني فيما لو قرر هؤلاء الناس انتظار وصول الثورة والدولة والحكومة. لا شيء يملأ العين في قريتنا مثل القمر, هو كل ما في القرية من وسائل الراحة! وهو في القرية يختلف جذريا عن هذا القمر الذي شنقته المدينة خارج أسوارها وتنازلت عن العشق والحب. في ليل القرية الهادئ يتجول القمر بين البيوت من باب لباب و القصبة السحرية بين شفتيه يعزف عليها ألحان السحر فيهدأ الليل والناس تقديرا لهذا العازف الجميل الذي يأبى أن يشيخ كما شاخ أقرانه المعذبون في سجون المدن. ماذا لو قرر هذا الجميل أن يترك الخدمة وطلب مرتبا للتقاعد؟ ضوء القمر هو الشيء المجاني الوحيد في قريتنا. لا يزال يبعث تلاحين العشق ولازال القلب يتبع عناقيد الضوء حتى هناك. هذا القلب لغز قاتل لا يحل, إنه جرة مثقوبة وفمها مفتوح أبدا وعلى الرغم من أن أنهار الأرض كلها تصب فيها فإنها ستظل فارغة عطشى. هكذا قال كازانتزاكيس في تقرير إلى جريكو. ولهذا, القلوب لا تسبع من الحب ولا تملؤها الكراهية, لا تملؤها أعظم الآمال ولا تكفيها أكوام اليأس. وهذه المضغة المعقدة التركيب هي من تقرر أن تجعلك إنسان الأحاسيس أو إنسان دارون. في قريتنا ينضج الناس مثل القمح ويتساقطون مثل القمح وينبتون من جديد. لا يراقبهم أحد سوى ذالك الساهر المخلص. قمر العدين, لا قمر يشبهك على الإطلاق, ليس لأنك تضيء أكثر فحسب بل لأنك تعيش بيننا وأنت تعلم أن "الرعايا " لا يحاسبون على الغياب.