خلال عام واحد استقبل مستشفى معبر ضحايا 20 ألف حادث مروري وقع في مسافة ال100 كيلو بين صنعاءوذمار 20/09/2009 البيضاء برس -ابواب وهي ترتجف.. ناولتني الحجة ”آمنة“ (56 عاماَ) كوباً من الشاي وجلست على حصير قديم. تسبقها تنهيدة حارة بدأت محاولاتها لسرد فصول مأساتها. فقدت أولادها الثلاثة في حادث مروري واحد، ومعهم فقدت عافيتها، ولم تخرج من غرفة العناية المركزة إثر انهيار عصبي حاد، إلا بثلاثة أمراض متلازمة: السكري، الضغط، وانخفاض مستمر في مستوى الرؤية، فقد ابيضت عينها اليسرى من الحزن. حاولت سماع رواية هذه الأم لما حدث لأبنائها إلا أن بكاءها المرهق حال دون ذلك. طبقا لمدير مرور محافظة ذمار المقدم خالد أنعم فإن الأبناء الثلاثة، وهم أحمد (28 عاماً)، عيسى (26 عاماً)،وعلي (22 عاماً) غادروا مدينة ذمار صباح الثلاثاء 17- 3-2009، باتجاه مدينة الحديدة (270كم غرب ذمار)، تقلهم سيارة هايلوكس بسرعتها القصوى لضمان اللحاق بالموعد اليومي لبيع القات في أحد أسواق الحديدة والذي يبدأ البيع فيه الساعة 11 صباحاً ويمتد أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل. عند مفرق طريق "حمام علي" الذي يقود إلى الحديدة، ويقع مابين طريق صنعاء–ذمار، وقع الحادث الرهيب: قاطرة نقل كبيرة قادمة من صنعاء اصدمت بالهايلوكس، لينتزع الحادث أرواح 7 من ركاب السيارة بينهم الأشقاء الثلاثة. ذاع خبر الحادث وأثار حزنا وإشفاقا لدى الناس، لكنه لم يثر شيئا لدى الحكومة رغم أنه حادث واحد من عشرات (بل مئات) الحوادث البشعة التي يشهدها هذا الطريق الحيوي على مدار الوقت. العمر الافتراضي خمس سنوات هي العمر الافتراضي للسيارات كما تحددها الشركات المصنعة بعد هذا العمر تكون سببا رئسيا في تلوث البيئة و زيادة الحوادث. في اليمن ينص القانون الجمركي لعام 2005 على منع استيراد السيارات التي مضى على إنتاجها 7 سنوات زائداً سنة الصنع. لكن كما يقول عبدالله النويرة مدير تحرير صحيفة الوعي المروري إن السيارات التي يتم التخلص منها في دول الخليج للأسف يتم بيعها في اليمن وتكون أكثر عرضة للأعطال والحوادث المرورية. يقول محمد النعامي مدير رقابة صنعاء في مصلحة الجمارك إن السيارات بعد 2001 يمنع ترسيمها ولا تعتبر السيارات المستخدمة سبباً رئيساً في زيادة الحوادث بل السرعة، والتجاوز الخاطئ.. وعدم صيانة السيارة بشكل دوري. يمتد الطريق الإسفلتي من العاصمة صنعاء إلى مدينة ذمار بمسافة 100كم (وهو جزء من الطريق الرئيسي الذي يربط العاصمة بتعز وعدن)، ويلقى الآلاف سنوياً حتفهم في هذا الطريق في حوادث مرورية باسباب كثيرية بينها ازدحام الخط الضيق أصلا أو بسبب التوسعات الإنشائية التي ينجزها مقاولون محليون متهمون بالتقصير والتلاعب في نوعية الإسفلت الرديئة، والأداء السيء في تنفيذهم للطرقات التي يصبح معها الخط عبارة عن: حفريات الكبيرة، تشققات مفاجئة، انعدام للوحات الإرشادية والخطوط الفسفورية على جانبي الطريق، بشكل يجعلك، إذا كنت مسافرا ليلا، تتخيل أنك تمخر عباب البحر حيث لا ضوء يهديك سوى ضوء القمر في بعض الليالي، وأحياناً كثيرة تتفاجأ بوجود مطبات ترابية مستحدثة من قبل أهالي القرى المحاذية للطريق، والأكثر قلقاً أنك تضطر للخروج من مسارك إلى مسار آخر لعدم اكتمال الطريق، حيث يبرع المقاولون بتقطيع أوصاله وربطه بشكل مفاجئ بالطريق القديم، وهو ما يسبب إرباكاً يودي بالسائقين إلى التهلكة، إضافة إلى انعدام أنوار بعض السيارات الكبيرة والمتوسطة الأمامية والخلفية، مما يجعل وقوع الحادث ممكناً بسهولة. يدافع المقدم أنعم مدير مرور ذمار عن إدارته بالقول أنها ليس من اختصاصتها إلزام المقاولين بتركيب اللوحات الإرشادية أو مراقبة عملهم، لا شيء سوى تنظيم حركة السير داخل المدينة، وإحاطة الحوادث المريعة بالتخطيط، وتحديد ماهيتها، وكيفية حدوثها. على أنه يعترف أن كوارث الحوادث المرورية باتت فوق الاحتمال: "إنها حرب..! حرب غير معلنة" كما يقول. حرب صامتة خلال عام واحد هو العام المنصرم، 2008، استقبل مستشفى معبر ضحايا 20 ألف حادث مروري. المستشفى التعليمي الذي أصبحت مهمته الرئيسة استقبال ضحايا طريق الموت هذا؛ يحاول تقديم خدمات طبية طارئة تنقذ المزيد من أرواح المسافرين يوميا، وفقا لعبد الله غسان، أحد أطباء المستشفى، الذي وهو يشكو من ضعف الإمكانات وافتقارالمستئفلى للأجهزة حديثة.. إضافة إلى تزاحم موتى الحوادث داخل ثلاجة المشفى، فإنه يشير بتبرم إلى واقع انعدام المسئولية لدى الجهات المختصة تجاه المشاكل التي تفاقم من كوارث حوادث السير: "هل تصدق أن حفرة تركها مقاول الإسفلت بالقرب من مدينة رصابة (80كم جنوبصنعاء)، أودت بحياة 7 أشخاص واحداً تلو الآخر، حتى تفضل المسؤولون المحليون بردمها؟" كما تساءل بمرارة. تألم عبدالعزيز جباري، النائب البرلماني المعروف، وهو يتذكر ابنه الذي فقده خلال حادث سير مؤلم قبل سنوات. وبعينين مثقلتين بالدموع، شرح لي كيف يرى ابنه المتوفى في عيون الآخرين، وفي ضحكة تشبه ضحكته، ليقول في النهاية: "الحوادث فاجعة العصر". هذا النائب المفجوع أوضح أن مجلس النواب وجه توصيات عديدة لوزارة الأشغال بشأن ظاهرة التنفيذ الفاسد لمشاريع الطرقات، لكن لم تتم الاستجابة لشيء من هذه التوصيات. لتضل بورصة الموت اليومي على قارعة الإسفلت في محافظة على ازدهارها: ففي إحصائية لحوادث المرور بمحافظة ذمار، خلال الأعوام 2005 - 2007، فإن حوادث الاصطدام وحدها فاقت ال982 حادثا، وتجاوز عدد وفياتها 626 شخصاً، وقدرت الخسائر المالية ب300 مليون ريال تقريباً، بينما أصيب خلالها 2000 شخص بإصابات متفاوتة. بينما بلغ إجمالي وفيات حوادث المرور للعام 2008 بمحافظة ذمار 165 شخصاً.. و أكثر من 980 شخصاً مصابا بإصابات مختلفة. وبلغ عدد الأشخاص الذين استقبلهم قسم الإسعاف والطوارئ بمستشفى ذمار العام، خلال 2008، في حوادث المرور، 1305 أشخاص، توفي منهم 99، بينما قضى نحو 53 آخرين في حوادث إطلاق نار من إجمالي 238 إصابة. (وبالنسبة لعموم البلاد فقد تجاوز عدد الوفيات للعام 2008 في إحصائية مركزية صادرة عن الإدارة العامة للمرور بصنعاء، ال2500 شخص، وأصيب أكثر من 20 ألف آخرين بإصابات متعددة، وفي محافظة إب مثلا توفي223 شخصاً في 579 حادثاً مرورياً خلال العام نفسه، وشهدت بلدة "رداع" القريبة إلى ذمار، وفاة 69 شخصاً في 144 حادثاً مرورياً في نفس الفترة). السائق أم المقاول؟ تفضل الجهات الحكومية الحديث باستمرار عن "تهور السائقين" كسبب لظاهرة التصاعد الحاد في نسبة حوادث السير، غير أن هناك من يرى مثلا أن الأعمال الإنشائية هي الأبرز بين أسباب كل هذه الحوادث، ويقول الصحافي والباحث الاجتماعي فضل الأشول إن "الأعمال الإنشائية الفاسدة التي تنفذها حالياً شركات محلية، لا تلتزم بالمعايير الفنية المطلوبة في جداول الكميات المسلمة لهم، والمطلوب تنفيذها على أرض الواقع، وهو ما أدى إلى خطورة حقيقية تعترض السائقين الذين لا يفقهون في أمر التوسعات المفاجئة أو الأعمال المهملة شيئاً.. ومنها عدم تركيب العلامات واللوحات الإرشادية الفسفورية"، مبديا شعوره بالإحباط تجاه ما اعتبره "بروداً" حكومياً يكتفي بإنحاءاللائمة على عدم وعي السائقين بأساسيات القيادة الآمنة. وهذا بالفعل ما قاله مدير عام الأشغال العامة والطرق بمحافظة ذمار، الذي لم ينس في غمار الأرقام الموحشة تقديم شكره الملائم لقيادة المحافظة والوزارة على اهتمامها بتركيب 80 لوحة إرشادية على طريق يبلغ طوله أكثر من 100 كم، وتمر عبره أكثر من 10 آلاف سيارة يومياً، باعتباره الطريق الحيوي الذي يصل عاصمة اليمن بمختلف المحافظات الواقعة إلى الجنوب منها. ورغم عدم كفاية هذه اللوحات الإرشادية واقتصارها على التسميات التعريفية لأسماء المناطق والقرى المحاذية للطريق، إلا أنه رأى "أن السائقين فعلاً هم من يقودون راكبي سياراتهم إلى هاوية سحيقة". ويدافع المهندس هيصمي أحمد الهيصمي عن أداء مكتبه، ويصفه بالمتميز.. مع اعترافه بقصور العمل الإنشائي التوسعي، مقارنة بدقة التصاميم الهندسية المطروحة لتوسعة الطريق، ويقول: "هذه مسؤولية مركزية تخص الوزارة التي أرست المناقصات على مقاولين، ولم تشرف بعد ذلك على مستوى أدائهم الضعيف". تتقدم إلى مناقصات الطرقات شركات محلية غير مؤهلة، وفاقدة لمعايير الجودة المطلوبة، ورأس المال، والضمانات اللازمة لتنفيذ العمل بسرعة وإتقان.. فتنفذ على مراحل متقطعة، لتنشئ طرقٌا غير مكتملة دون أن تراعي دن أعمال التنفيذ ضرورة تنبيه السائقين بالاستحداثات الجديدة.. فتتكوم الأحجار بطريقة عشوائية على جانبي الطرق.. وتفاجأ أحياناً بجزر إسفلت قديم أو حديث أمامك.. وبأن الطريق يضيق، ثم يتسع بشكل مزاجي، وهو ما يراه مقاولون مناسباً مقابل ما يستلمونه من مخصصات مالية لا تصرف بشكل وافٍ، مما يعني ترك حكاية الإتقان المطلوب لحين وفاء وزارة الأشغال العامة والطرق بالتزاماتها المالية تجاههم. باصات «السردين» يضحك أهالي مدينة ذمار حين يتندرون في مجالسهم بالسخرية من أهالي مدينة جهران التي يقع فيها الحقل الزراعي الخصب.. بفقدانهم حصافة السائقين وتهورهم في السواقة.. حين يدخلون إلى الطريق السريع بسياراتهم أو حراثاتهم الزراعية بعد العد من الواحد إلى الثلاثة..! ولهم قدرهم.. فإن صادفوا سيارة ارتطموا بها.. وإن لم يجدوا شيئاً أطفأوا أنوار سياراتهم ليلاً..! في الواقع قد تكون هذه الصورة الكاريكاتورية هي الصورة العامة لمن يمتهنون حرفة قيادة السيارات، فهناك خصوصا سائقو باصات النقل المتوسط الذين يحشرون الناس داخل باصاتهم كما تُحشر الأنعام ليتحول الباص الواحد إلى "علبة سردين"، ولضيق مساحة الباص مقارنة بعدد راكبيه تجد الضحايا ممزقين أشلاء. ينعدم هنا دور إدارات المرور التي لا تعمل على تحديد العدد المناسب للركاب والطاقة الاستيعابية للباص أو لسيارة البيجو تلافياً لنزيف عدد أكبر من الأرواح في الحوادث. مدير مرور ذمار يبرر هذا الأمر بالقول: "نحن لا نستطيع تحديد ذلك.. العدد تقره نقابة السائقين.. ونحن نعمل فقط على تسيير حركة السير داخل المدن.. وبين فينة وأخرى نقوم بإعداد وإرسال الحملات التفتيشية للقبض على سائقي السيارات الذين لا يحملون تراخيص القيادة، أو مراقبة وتوقيف السيارات غير مكتملة الإضاءة الأمامية والخلفية". طوارئ.. منعدمة هذا الواقع لحوادث المرور تتلازم معه ظاهرة تبدو كما لو أنها تضطلع بإكمال مهمة الحادث المروري، إنها ظاهرة وجود طوارئ إسعافية على الطرقات، وتدني قدرات المستئفيات في المدن فيما يتعلق بإسعاف المصابين بحالات حرجة، أو حتى متوسطة، للمصابين في الحوادث. مثل حال مستشفى معبر، حال مستشفى ذمار العام الذي يستقبل هو الآخر حالات الطوارئ العنيفة، رئيس قسم الباطنية بالمستشفى د. عبدالرقيب الغباري يكتفي إزاء هذا الواقع بالقول" نحن نفعل كل ما نراه واجباً.. لكن أين يمكنني أن أضع ضحايا النزف الدماغي في ظل انعدام جهاز الأشعة المقطعية، وعندما أوجه بنقلهم إلى صنعاء لإجراء الفحوصات الشاملة أجد سيارات الإسعاف غائبة.. هذا إهمال إداري لا أقدر على مواجهته، أما أنا وزملائي فنقوم بواجبنا كأطباء". هل يكفي أن يكون الطبيب ماهراً لإنقاذ أرواح المصابين؟ سؤال غير مناسب لجواب ضاع أمام قسوة الرائحة العفنة التي تتميز بها أقسام المستشفى المنهار. في غرفة العناية المركزة التي ألحقت صفة "الحثيثة"، يشرف على تطبيب المرضى شاب صغير أو عدة شبان يدرسون التمريض الصحي في أحد المعاهد الخاصة بالمدينة، الأسّرة ممتلئة بالمرضى، وهناك شاب مجهول الهوية يصارع الموت منذ يومين كاملين بسبب نزف دماغي ناتج عن دهسه بسيارة مجهولة أيضاً، دون أن يتلقى العلاج أو يفحصه طبيب ماهر، أو حتى يكون مدعاة للرحمة.. فالإجراءات الإدارية البيروقراطية تحتم وجود الأهل، وإن غابوا، فلا ضير أن يُغيب الموت ابنهم فيتلقوا خبراً ثقيلاً.. يبكيهم لأعوام طوال. قبل عام ونيف تعرض والدي لحادث مروري.. هرولت باتجاه المستشفى الذي أسعف إليه، ومن بعيد سمعت صراخه، اهتديت إليه.. وصعقني ما رأيت: كان مكبلاً بخيوط أقمشة الجراحة، ومقيداً بقسوة إلى سرير حديدي بارد، وقد اجتهد فاحصوه بتجريد ملابسه.. وإعطائه حقنة مهدئة.. ثم واصلوا مزاحهم الثقيل في غرفة الطبيب المناوب بانتظار قريب له، كان هذا في مستشفى الثورة الكبير بالعاصمة صنعاء. صرخت.. استنجدت.. بكيت.. وأنا أرى والدي جريحاً دون تطبيب، وعجزي يفوق مقدرتي.. ولم أجد سوى نصيحة حارس شاب يقول: سيموت والدك إن لم تنقذه لأقرب مشفى خاص.