تأتي الذكرى ال 60 لثورة 14 من أكتوبر 63م في ظروف عصيبة يمر بها شعبنا وكأنها أتت لتلهمنا روح الكفاح المسلح ومعاني الحرية والصبر والصمود للنهوض بالوطن من جديد وتذكرنا بما تميزت به قيادتها الثورية والسياسية من حنكة وولاء مطلق للوطن والشعب... لقد تميز قادتها بطابع متقد بالوعي الثقافي الثوري والفكر التحرري الشامل، والمفعم بالطموح الجامح لنيل الاستقلال وبناء دولة مدنية حديثة في جنوب الوطن يسودها العدالة والنظام والقانون والمضي بها صوب تحقيق الوحدة اليمنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة... وهو ما يعني سِبقْ مرحلة تحرر العقل، والفكر من ثقافة التشرذم والولاءات الضيقة بكل صورها... وإذكاء حالة الوعي الجمعي بالولاء الوطني والعمل الثوري والسياسي لدى تلك القيادة قبل مرحلة تحرير الأرضُ وبناء الدولة الامر الذي انعكس إيجاباَ في امتلاك القدرة على حشد وتوجيه الوعي الجماهيري والتفافه حولها لتحقيق اهداف الثورة الاكتوبرية بنسبة فاقت ماتحقق لشقيقتها الكبرى (الثورة السبتمبرية) في شمال الوطن بفارق كبير بمختلف المجالات الخدمية والامنية ك (التعليم، والصحة، والماء، والكهرباء ، والأمن، والدفاع ، والمواصلات، والاتصالات، الحياة المعيشية ، و.... الخ ) وكذلك الحال بالنسبة للسلطات المختلفة (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية) وفقاً لظروف تلك المرحلة فقد كانت تمثل نموذج متقدماَ و متميزاَ بين نضيرتها من دول المنطقة وإن كان هناك ضعف نسبي في الجانب الاقتصادي نتيجة عوامل فرضتها طبيعة المرحلة وحداثة ميلاد الجمهورية الفتية... فهي طبيعية وقابلة للحل والنهوض بها وفق آلية مختلفة تحقق الاستثمار الناجح للموارد الطبيعية الوافرة بالبلد (الزراعية، الحيوانية، الصناعية ، والبحرية، والجوفية )... غير ان الارتباط الوثيق لتلك القيادة بالمعسكر الشرقي المُحَارَبْ من قبل الليبرالية الغربية وانهيار الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى الصراع السياسي الداخلي أدى إلى انحسار واضعاف عملية التنمية الشاملة والتجربة الديمقراطية الوليدة... وهو ما أعطى الفرصة للقوى الرجعية ، والطائفية، والمناطقية المناهضة لمشروع الدولة المدنية ان تنشط لمحاربتها من جهة، والقوى الإقليمية والدولية ذات الطابع الليبرالي من جهة أخرى.... ورغم ذلك كله ضلت متميزة ومتمسكة بمكتسباتها وانجازاتها التاريخية العظيمة حتى إعلان تحقيق الوحدة اليمنية .. وبالعودة إلى حالة الوعي فقد تجسدت تلك الحالة في معظم قيادات ثورة 14 اكتوبر إن لم يكن جميع من نشأوا وترعرعوا في أحضان الحركة القومية التحررية ذات الفكر التنويري المتشبع بالوعي الثقافي، والثوري، والقومي، والوطني وهو ما انعكس ايجابا على ارض الواقع وحقق ما كان يصعب تحقيقه في ظل سلطة إحتلال عمدت لسياسة فرق تسد لوطن ممزق مترامي الأطراف بين واحد وعشرون سلطنة وإمارة ؟!! هذا الوعي الوطني والنضج السياسي والفكري لتلك الكوكبة من الثوار والقادة الأحرار هو من فرض هذا التميز ومكنهم وسط ظروف غاية في التعقيد والصعوبة ان يلموا شتات وطن ممزق ويطببوا جراحاته ويجمعوا فرقاء 21 إمارة وسلطنة دون طلقة نار رغم ايغال المحتل في اذكاء روح العداء والشحناء والصراع بين تلك المكونات ليتسنى له البقاء على ارض الوطن ناهباَ لمقدراته مذلا ومستبدا لشعبه.. نعم لم تأت قيادة ثورة 14 اكتوبر من قوقعة القبيلة والعائلة، والمناطقية والطائفية ولم تُختطف الثورة الاكتوبرية من قبل عصابة مشيخية او جهوية او سلالية بل تشكلت من الهوية اليمنية الشاملة لكل اطياف الشعب... المؤمنة بالنظام والقانون والمواطنة المتساوية فحررت وطن وبنت دولة وفق أسس عصرية حديثة ساد فيها النظام والقانون والعدالة والأمن، وتوفرت فيها الخدمات المجانية الصحية والتعليمية، والمياه، والكهرباء، وغيرها من الخدمات لكل أبناء الشعب دون تميز او استثناء.. ان هذه الثورة العظيمة والمتميزة استطاعت بفكر وثقافة ووعي قادتها الوطنين أن تحدث تغييراَ جذرياَ في حياة المجتمع جنوباَ بفارق كبير عما كان عليه الحال في شمال الوطن وهذا امر لا يستطيع احد القفز عليه او انكاره.. وهو ليس انتقاص من ثورة 26 سبتمبر 62م المجيدة.. ولكنها المفارقة العجيبة بين ما ينتجه الفكر الوطني في قيادة ثورة وبلد ؟!! وما ينتجه الفكر الطائفي المناطقي العنصري والجهوي العقيم عندما يختطف الثورة ويتصدر المشهد العام ؟!! وبتلك الرؤية الوطنية استطاعت ثورة 14 من اكتوبر 63م أن تحدث الفارق الكبير والتميز الواضح بإسقاط أهدافها على ارض الواقع وترجمتها من خلال توفير التعليم المجاني للجميع واستيعاب مخرجات التعليم، واخضاع البعثات التعليمية لقانون ومعايير الابتعاث، ووفرت الوظائف للخريجين كل في مجاله.. وقضت على الأمية بصورة شبه تامة ماجعلها تحتل المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط من حيث جودة التعليم والقضاء على الأمية في تلك المرحلة.. فيما ظل الشمال يرزح ولا يزال بكل أسف تحت سطوة الأمية حتى اللحظة في كثير من المناطق!!! والحاضر يتحدث عن نفسه؟!! وفي الجانب القانوني والامني تمكنت الثورة الاكتوبرية من تحقيق قفزة كبيرة في تطبيق القانون واحترام سيادته وتنفيذ نصوصه بحق الرئيس والمرؤوس على حد سواء وضبطت الحالة الأمنية بصورة يشهد لها القاصي والداني من أقصى الشرق على حدود عمان إلى أقصى الغرب من خليج عدن وهي مساحة تشكل ثلثي الجمهورية اليمنية تقريباً ماجعل من إحتمال حدوث جريمة القتل او الاغتيال او السطو او النهب او.... الخ أمرا مستحيلا وغير مستساغ في ثقافة وعقلية المسؤول والمواطن على حد سواء لكون القانون حاضر بسيفه ولن يفلت منه أحد كائن من كان .. وهو ما بدا جليا في مظاهر الصدامات الدامية المؤسفة بين رجالات العمل السياسي دون اللجوء لأساليب الغدر والاغتيالات!! وإن كان ذلك امرا مؤلما لكن ان تعلن حربا خيرا من أن تبيت غدرا وان تكون اسداَ أشرف من أن تكون ثعلاَ؟!!! وفي الجانب العسكري حققت الثورة قفزة نوعية للمؤسسة العسكرية والدفاعية حيث بنت قوة مسلحة ذات كفاءات وقدرات قتالية ونوعية عالية من حيث التدريب والتأهيل والكفاءة والتسلح ووفقاَ لمعايير تلك المرحلة اخذت قاعدة العند مرتبة متقدمة على مستوى الشرق الأوسط إن لم تكن الأولى ... وفي الصحة عملت ثورة 14 اكتوبر على توفير الخدمات الصحية المجانية للمواطنين وقدمت لهم الرعاية الكاملة على حساب الدولة ولم تترك احداَ يموت على باب مستشفى لأنه معدم؟!! او ليس له وسيط ولا نافذ؟!! كذلك الحال بالنسبة للكهرباء والمياه وإن وجدت رسوم لبعض الخدمات فهي رمزية لاتذكر ولا تشكل عبئاَ على كاهل المواطن.. وفي مجال تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية أزالت الثورة الاكتوبرية كل أشكال التميز العنصري وذوبت المشيخية والطبقية والطائفية والجهوية في قالب الهوية الوطنية (الجميع سواسية ) تحت القانون.. فلا شيخ ولا مهمش (خادم) ولا مزين ولا قبيلي في (جنوب الوطن) الكل مواطنون يمنيون متساوون.. الكفاءة والاهلية العلمية والعملية هي معيار قبولك وحصولك على مقعدك في الكليات العسكرية والمدنية، والبعثات الخارجية دون ان يعترض طريقك نافذ او............. !! وهذا بحد ذاته يعد انجاز عظيم في ارساء أسس وقيم العدالة الإجتماعية للدولة المدنية الديمقراطية وبما ينسجم مع القيم الدينية والاخلاقية والوطنية والإنسانية السامية.. إن ما سبق ذكره هو نزر يسير من منجزات ثورة ال 14 من أكتوبر 63م الخالدة ومفارقة جوهرية لما تم إنجازه واسقاطه على واقع الحياة العملية في جنوب الوطن على يد قيادة وطنية عملت وفق رؤية وطنية منحازة للوطن والشعب رغم الصراعات السياسية والأحداث الدامية المؤسفة التي وقعت هناك... مقابل ما عجزت عنه ثورة ال 26 من سبتمبر 62م في شمال الوطن على يد جماعة جهوية عصبوية طائفية مناطقية اختطفتها واجهضت مشروعها الوطني واتخذت من أهدافها شماعة طوال العقود الماضية للتغني بها أمام الشعب ليس إلا ؟!!! فيما وضفت كل مؤسسات الدولة ومقدرات البلد لخدمتها وإثرائها وتكريس سلطتها للتسلط على الشعب ونهب ثرواته ؟!! هذه هي الحقيقة المرة !!!؟ الرحمة للشهداء المجد والخلود لثورتي سبتمبر واكتوبر