هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    كوريا الجنوبية المحطة الجديدة لسلسلة بطولات أرامكو للفرق المقدمة من صندوق الاستثمارات العامة    صاعقة كهربائية تخطف روح شاب وسط اليمن في غمضة عين    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يعود إلى العاصمة المؤقتة عدن    الهلال يهزم الأهلي ويقترب من التتويج بطلا للدوري السعودي    مليشيا الحوثي توقف مستحقات 80 عاملا بصندوق النظافة بإب بهدف السطو عليها    تهامة.. والطائفيون القتلة!    انهيار جنوني متسارع للريال اليمني .. والعملات الأجنبية تصل إلى مستوى قياسي (أسعار الصرف)    الرئيس الزُبيدي يبحث مع مسئول هندي التعاون العسكري والأمني    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    أول تعليق أمريكي على الهجوم الإسرائيلي في مدينة رفح "فيديو"    وتستمر الفضايح.. 4 قيادات حوثية تجني شهريا 19 مليون دولار من مؤسسة الاتصالات!    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    حقيقة فرض رسوم على القبور في صنعاء    بأمر من رئيس مجلس القيادة الرئاسي ...الاعدام بحق قاتل في محافظة شبوة    العثور على مؤذن الجامع الكبير مقتولا داخل غرفة مهجورة في حبيل الريدة بالحج (صور)    قيادي حوثي يفتتح مشروعًا جديدًا في عمران: ذبح أغنام المواطنين!    شاهد.. صور لعدد من أبناء قرية الدقاونة بمحافظة الحديدة بينهم أطفال وهم في سجون الحوثي    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    الرئيس الزُبيدي يطالب بخطط لتطوير قطاع الاتصالات    فتيات مأرب تدرب نساء قياديات على مفاهيم السلام في مخيمات النزوح    البرلمان العربي يحذر من اجتياح رفح جنوب قطاع غزة    أبطال أوروبا: باريس سان جيرمان يستضيف بوروسيا دورتموند والريال يواجه بايرن في إياب الدور قبل النهائي    الذهب يصعد متأثراً بآمال خفض اسعار الفائدة الأميركية    فارس الصلابة يترجل    السياسي الوحيد الذي حزن لموته الجميع ولم يشمت بوفاته شامت    عودة نجم بايرن للتدريبات.. وحسم موقفه من صدام الريال    التشكيل المتوقع لمعركة الهلال وأهلي جدة    مسيره لطلاب جامعات ومدارس تعز نصرة لغزة ودعما لطلاب الجامعات في العالم    ضجة بعد نشر فيديو لفنانة عربية شهيرة مع جنرال بارز في الجيش .. شاهد    رشاد العليمي وعصابته المتحكمة في نفط حضرموت تمنع تزويد كهرباء عدن    ضعوا القمامة أمام منازل المسئولين الكبار .. ولكم العبرة من وزير بريطاني    «كلاسيكو» الأهلي والهلال.. صراع بين المجد والمركز الآسيوي    صنعاء.. اعتقال خبير في المواصفات والمقاييس بعد ساعات من متابعته بلاغ في هيئة مكافحة الفساد    سلطات الشرعية التي لا ترد على اتهامات الفساد تفقد كل سند أخلاقي وقانوني    تغاريد حرة.. رشفة حرية تخثر الدم    ليلة دامية في رفح والاحتلال يبدأ ترحيل السكان تمهيدا لاجتياحها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    عقب تهديدات حوثية بضرب المنشآت.. خروج محطة مارب الغازية عن الخدمة ومصادر تكشف السبب    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    هل يستطيع وزير المالية اصدار كشف بمرتبات رئيس الوزراء وكبار المسئولين    رباعية هالاند تحسم لقب هداف الدوري.. وتسكت المنتقدين    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    فاجعةٌ تهزّ زنجبار: قتيلٌ مجهول يُثيرُ الرعبَ في قلوبِ الأهالي(صورة)    استهداف السامعي محاولة لتعطيل الاداء الرقابي على السلطة التنفيذية    الليغا: اشبيلية يزيد متاعب غرناطة والميريا يفاجىء فاليكانو    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انتفاضة القصر.. إرهاصة شعبية منسية.. في أرومة النضال
نشر في الاتجاه يوم 02 - 01 - 2013

فيما كان الاحتلال البريطاني, يضيف (عدن) إلى مستعمراته, ويضعها دُرة على تاج الملكة فكتوريا, كانت المقاومة الشعبية تتأجج خارج المدينة, "وتتجمع من مناطق الشمال والجنوب, لكي تُطهر (عدن), غير أن هجماتها ترتد منكسرة لقوة حصانة عدن, وحداثة السلاح الذي يستخدمه جيش الاحتلال"..
في بحثه: انتفاضة القصر "إرهاصة شعبية منسية ..في أرومة النضال الوطني (62)عاماً.. 27 ديسمبر 1950-27 ديسمبر 2012م" يسترسل الناشط والمحلل السياسي محفوظ سالم ناصر – بالقول:".. ويذكر التاريخ المحاولات الشعبية لاسترداد عدن من المحتلين البريطانيين التي اضطلع بقيادتها "سلطان لحج بالتعاون مع سلطان الفضلي وذلك في نوفمبر 1893, ومايو 1840, ويوليو 1840, وفي اغسطس 1846, بمعنى أن شعبنا لم يستسلم.. بل قاوم, وناضل, وقدّم الكثير من الشهداء"
إذ انه طول فترة الحكم الاستعماري البريطاني (1839-1967م) والحكم الإمامي الظلامي (1918-1962م), لم تلن للشعب اليمني –بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية- قناة, ولم يخبو بدواخله إتقاد جذوة نضالاته في سبيل الانعتاق من قيود المستعمرين والإماميين الظلاميين, في زخم جماهيري عفوي, تبدت تجلياته في انتفاضات وحركات شعبية عفوية..
وتطرق الباحث محفوظ- أمين سر مركز "منارات" للدراسات التاريخية الى؛ الانتفاضات المبكرة لقبائل ردفان (1918, 1938, 1948, 1957)، حركة حاشد (1337ه/1919م)، انتفاضة المقاطرة (1339ه/1921م-1340ه/1921م) ، الانتفاضات الشعبية في منطقة العوالق السفلى (1936, 1937, 1946, 1949,1954م) ، انتفاضة الجنود, حاشد, خولان, ذو محمد, ذو حسين (1959)، انتفاضة قبائل الصبيحة (1942م) ، انتفاضات قبائل حضرموت والمهرة (1942, 1951, 1952, 1955, 1961) ، انتفاضات الشعيب وحالمين والضالع (1947, 1948, 1957) ، انتفاضتي القبائل في يافع (1985, 1959)، انتفاضة القبائل في منطقة الواحدي (1941) وفي بعض المصادر (1946)، الانتفاضات في منطقة الفضلي (1945, 1946, 1957) ،انتفاضات العواذل (1946, 1947) ، انتفاضة كريتر (20 يونيو 1967) ، وفي منطقة دثينة (1958) ، وفي منطقة الحواشب- الراحة (1950) ، انتفاضة الصبيحة (1942)، فضلا عن التمردات القبلية من منتصف العشرينيات إلى آخر الإربعينيات, برئاسة شيوخ أو أشباههم : (كالرصاص)في البيضاء, و(الدباغ) في دمت,و (القردعي) في حريب وشبوه .
انتفاضة الصبيحة (1942)
فضلا عن التمردات القبلية من منتصف العشرينيات إلى آخر الإربعينيات, برئاسة شيوخ أو أشباههم : (كالرصاص)في البيضاء, و(الدباغ) في دمت,و (القردعي) في حريب وشبوه .
ومن الحركات النضالية في مسيرة شعبنا التواق حينذاك للحرية والتحرر من المستعمر الأجنبي, والمستبد الظلامي (الوطني), ومنها: حركة الزرانيق في تهامة (أول سنة 1928- آخر 1929)، الحركة الدستورية في صنعاء (1948)، حركة الثلايا في تعز (1955)، حركة ذمار (ديسمبر 1948)، حركة ضباط مستشفى الحديدة (اللقية, العلفي, الهندوانة/22 مارس 1961م)، إضراب سكان تريم (1950) احتجاجا على تعاظم الضرائب, وعلى الأخص الجمركية منها, وبالتزامن مع الإضراب وتفاعلا معه نظم الطلاب مظاهرات سلمية رفعت شعارات مثل (نحن في مجاعة), (الغوا الضريبة الجمركية)...الخ ، انتفاضة حمود باضاوي , السيئونية (1950), حيث أدى فرض ضريبة النخيل على المزارعين في السلطنتين (القعيطية والكثيرية) إلى استياء بالغ لدى الفلاحين الذين اجتمعوا في أحد مساجد سيئون, وساروا إلى بيت رئيسهم (زعيمهم) الذي أطلقت عليه صحيفة فتاة الجزيرة (الاشتراكي النزعة) لدفاعه عن الفلاحين, ومطالبته برفع الضيم عنهم, وقرر الفلاحون الإضراب في سيئون لمدة يومين, إظهارا لاستنكارهم الضريبة الجديدة, وقد نُفذ الإضراب بمشاركة 1500 فلاح, وخوفا من تطور حركة الإضرابات, بطشت السلطة (الكثيرية) بالفلاحين, واعتقلت قائدهم حمود باضاوي, وأودعته السجن.
انتفاضة القصر
أول حدث أثر في نفسي, كان حادثة القصر التي راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى من أبناء مدينتي, وكنتُ حينها في المدرسة الغربية الملاصقة للمستشفى, وكنا نطل من الشبابيك وشهدت مع غيري من التلاميذ قتلى وجرحى كثر من أهالي البلاد, مما أحدث أثراً كبيراً في نفسي, وظلت الحادثة راسخة في ذهني, ولا تزال محفورة إلى اليوم.... (المناضل. خالد محمد عبدالعزيز).
حتى يتأتى لنا الإلمام والإحاطة بهذه الانتفاضة الشعبية التي استنطقتها الثورة (سبتمبر/ أكتوبر) عبرةً وحدثاً ملهماً, وأخرست إحياء ذكراها سلطة 22 مايو 1990م بشريكيها, شريكاً جاهلاً أو متجاهلاً لها (المؤتمر), وآخر كان لاهياً مشغولاً عنها بالمزايا وترتيب الأحوال السلطوية, والنوم في العسل (الاشتراكي), ليتأتى لنا ذلك لابد من أن نقف قليلا عند (الحزب الوطني القعيطي), باعتباره مسعر ومؤجج وقيد هذه الانتفاضة, والمحاول إخمادها ونفض يده عنها في نفس الوقت, كما سيتبدى لنا لاحقا على السطور القادمة. و (الحزب الوطني القعيطي) كما يتضح لنا من تسميته, اقتصرت حركته ونشاطه على النطاق الجغرافي لما كان يُعرف ب(السلطنة القعيطية) ولدى تأسيسه في العام 1947م(1) انضوى في إطار عضويته كبار الموظفين , والتجار والمُلاك, ويتمثل الهدف الرئيس أو الأساسي, من وراء تأسيسه في "الدفاع عن العرش القعيطي" بل وليس ببعيد عن محجة الصواب القول بأن هذا الحزب تأسس برعاية ودعم سلطاني وكما يقول الباحث والكاتب الصحافي الأستاذ احمد عوض باوزير فقد كان السلطان صالح بن غالب القعيطي(2) (ت 1956م) هو نفسه وراء قيام الحزب الوطني, وكان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق مصالح شخصية بحتة منها أن يكون أداة حفظ له في نزاعه مع السلّطنة الكثيرية في قضية (مشكلة) ساه(3), التي انتهت بالتوفيق بين الطرفين بمساع قام بها المستشار البريطاني, وبعد ذلك تخلى السلطان عن تأييده للحزب ووضع أعضاءه في موقف بالغ الدقة والحرج مما أدى ببعضهم إلى الاستقالة, وعلى أثر ذلك توقف نشاط الحزب لفترة طويلة جداً. كان أول مؤسس ورئيس للحزب, الشيخ احمد سالم باعشن, الذي كان رئيسا لمحكمة الجنايات في المكلا, وفيما بعد , ترأسه عوض محمد بكير, الذي كان يتمتع بنفوذ كبير بين أوساط الموظفين في السلطنة , وأن كان ذو ثقافة محدودة. ومن برنامج الحزب المُعلن يتضح بأنه أنشئ لغرض مساعدة السلطان وإسداء الرأي إليه
أصل الحكاية
في السلم الوظيفي للسلطنة القعيطية, كانت وظيفة سكرتير (وزير) السلطنة, تعتبر (أكبر وظيفة في الدولة) وأرفع منصب "خطير" كما يصفه المؤرخ سعيد عوض باوزير, وعلى أهمية الوظيفة وخطورتها , غير أنه ظل ولعهود "خط أحمر" يحول ما بينها وبين ارتقاء أبناء حضرموت –خاصة- واليمن- عموما إليها, وأن بلغوا ما بلغوا من المراس والكفاءة والخبرة والتجربة, وبالتالي ظلت منطقة "مغلقة" يحتكرها من يصفهم المؤرخ سعيد عوض باوزير ب(الوزراء المجلوبين) وكانت الأوساط الشعبية تأمل أن يكون سيف بن علي أو بوعلي الزنجباري (عُماني الجنسية) آخر الحلقات في سلسلتهم , ومعلومة وشائج العلاقة القائمة إلى يومنا هذا ما بين سلطنة عُمان, ومدينة زنجبار التنزانية في شرق أفريقيا, وأصل الحكاية .. أنه جاءت فترة على السلطنة, صار فيها سكرتيرها (وزيرها) الزنجباري, (يتصرف أحيانا دون العودة إلى المستشار البريطاني –وهي بطبيعة الحال-, تصرفات لا ترضي المستشار البريطاني ولهذا أظهر السلطان رغبته في تغييره بناء على طلب المستشار البريطاني "هيوبوستيد).
صحيح أنه كان ثمة إجماع على تغيير الرُجل, غير أن التباين الصارخ في المواقف, كان يتموضع حول البديل, هنا عادت أو أُعيدت الروح , للحزب الوطني القعيطي, ليبدأ أسمه "بالبروز في نهاية العام 1949م(7)" أو أنه كما يرى البعض يعود "إلى الظهور في سبتمبر من العام 1950م حيث شُكلت قيادة جديدة للحزب, برئاسة الشيخ عوض محمد بكير".
ويمكننا أن نمحور المواقف من البديل ل(الزنجباري) وأقطابها أو محركيها, في, السلطان القعيطي, ويستهدف من إجراء عملية التغيير "تعيين أحد المقربين إليه في منصب السكرتير (الوزير) ليكون العوبة في يده"(9) فيما كان المرشح الأوحد لشغل المنصب, من قبل المستشار البريطاني, بوستيد, هو ناظر المعارف في السلطنة القعيطية, الشيخ قدال سعيد القدال (سوداني الجنسية).
وقبل المضي في عرض بقية الترشيحات للمنصب وأطرافها, لا بأس من أن نقف قليلا عند موقف السلطان من الترشيح الذي تقدم به ورفعه إليه, بوستيد, وقد حرص الأخير على إثباته في كتاب له عن حياته , صُدر في العام 1971م, بعنوان "ذي ويند أوف مور نينج", (رياح الصباح), إذ يقول فيما أثبته من موقف للسلطان من ترشيحه, وما ترتب على ذلك الموقف من أحداث "السلطان كان مترددا في تنحية الشيخ سيف, وألححتُ عليه بشدة حتى قبل ذلك في يونيو 1950م(11)" وعندما ذهب السلطان صالح(12) في إجازة إلى الهند, حيث كان لا يزال قمندار حرس نظام حيدر أباد الأسمي, قام إبنه عوض(14) بأمر السلطنة أثناء غيابه, وتسرب خبر النية في تعيين الشيخ القدال إلى الشعب, فقامت معارضة قوية ضد التعيين التي مثَّلها السواد الأعظم من المواطنين المطالبين (باستبعاد السكرتير/الوزير السابق "الزنجباري" ورفض من رشّحهُ المستشار البريطاني, (القدال) لأسباب أراد الشعب توضيحها للسلطان" بواسطة الحزب, منها, أن المرشح لابد أن يكون من أبناء البلد, فكلا الاثنين (الزنجباري والقدال) غير يمنيين, وقد استفاد السلطان من سخط الجماهير على الأوضاع القائمة ومنها سكرتير/وزير السلطنة, الذي كان يطمح من وراء استبداله إلى الحصول على المزيد من رضاء السلطة الاستعمارية وخطب ودها أكثر , وهنا تلاقى الغضب الصادر من الأسفل, من قبل الجماهير, مع الرغبة الآتية من السلطان, وبدلا من أن تتحمس قيادة الحزب لمطالب الشعب, تحَّمس الحزب لتغيير سكرتير/وزير السلطنة, وطالب هو الآخر بتعيين القدال, وعقد لأجل ذلك عددا من اللقاءات, ونظم العديد من المظاهرات والتي اختفى منها كبار الموظفين والتجار, ولم يحضرها إلا من وصفتهم (فتاة الجزيرة) بالأعضاء الشعبيين).
ولما لم تعد بروزنامة العام 1950م, سوى ستة أيام لا غير, كانت قد تصاعدت الأحداث, وتصلَّبت المواقف (نكون أو لا نكون), ومن موقع المحلل السياسي, والكاتب الصحافي المتابع الراصد للأحداث, والمؤرخ البحاثة المستغور كل شاردة وواردة فيها, يقول الأستاذ احمد عوض باوزير (في مساء يوم الثلاثاء ال 26 من ديسمبر العام 1950م, كان الكولونيل بوستيد, المستشار البريطاني لدولتي حضرموت "القعيطية والكثيرية" يقود سيارته عبر الشارع الرئيسي لمدينة المكلا, وإلى جواره يجلس الشيخ القدال, ناظر التعليم "السابق" حيث كانا عائدين لتوهما من اجتماع لمجلس الدولة "القعيطية" الذي أكد بالإجماع على تعيين القدال في منصب السكرتير/الوزير للدولة "السلطنة" وعلى رصيف الجمرك, حيث الهواء الطلق جلسا يتجاذبان أطراف الحديث مبتهجين لأن مخاوف السلطان من قرار التعيين قد أمكن التغلب عليها (18) لا سيما أنه قد سبق هذا التحول في الموقف السلطاني, أو تزامن معه وبشهادة بوستيد نفسه, تجمع حوالي أربعة آلاف شخص أمام قصر السلطان, مطالبين بتعيين حضرمي في هذه الوظيفة التي تعتبر أعلى وظيفة في السلطنة, وطالب وفد أن يقابل السلطان عوض (كان حينذاك أميراً وولياً العهد, قائما بمهام والده السلطان في فترة غيابه في إجازة بالهند) ليشرح له الأمر, ولكن بوستيد, أمر السلطان عوض, أن يخبرهم بأن مسألة تعيين سكرتيراً/ وزيراً للسلطنة, ليس من شأنه, وإنما هو من شأن أبيه بعد أن يعود من الهند(19).
وبالعودة إلى زاوية أخرى من المشهد الذي كان قد صوّرهُ لنا المؤرخ باوزير, قبل قليل نطالع أنه (في الوقت الذي كان فيه مجلس الدولة يقر تعيين القدال في منصب السكرتير/الوزير, كان الحزب الوطني وقتئذ يبحث في تكوين وفد برئاسة الشيخ عوض بكير, رئيس الحزب, لتسليم عريضة للسلطان, تتضمن مطالبته بتعيين سكرتير وطني)(20).
وعلى مضض أغمضت المدينة أجفانها , لتصحو على تطورات ومستجدات, في صباح يوم جديد تالٍ, والأيام حبلى بالمفاجآت, وبما لم يكن في الحسبان.
الحدث .. "بطلاً" ورواية
كان الكولونيل هيوبوستيد, قد تولى مهام منصبه معتمداً/مستشاراً بريطانيا في المحمية الشرقية, أوائل العام 1950م وقبل أن يطوي عام تنصيبه , صفحاته, كانت قد تواترت الأحداث التي كان مؤداها ما عُرفت بانتفاضة القصر أو مجزرة المكلا, غير أن حوادثها بقيت "غامضة وغير مدونة إلى أن كتبها بطلها" بوستيد في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه (رياح الصباح).
وحتى نقف على أحداث اليوم التالي (27/12/1950م) من مضانها , نعود إلى بوستيد في رياح صباحه الدامي (في الساعة الخامسة من صبيحة يوم السابع والعشرين من ديسمبر (1950م) صحّاني ضابط بوليس المكلا ودخل إلى غرفتي , ثم قال " لقد عُقدت عدة مؤتمرات طيلة الليل بين الجماهير المعارضة لتعيين الشيخ القدال. والوضع جد خطير . وفي الساعة الثامنة والنصف سوف تتجمع الآلاف من الناس في ميدان القصر. وسوف يقوم وفد منهم بتقديم احتجاجهم إلى السلطان على التعيين " فسألته "هل أخبرت الشيخ القدال بالأمر " ؟ فأجاب "نعم. لقد أتيت الآن من عنده وقد بعثني إليك " فقلت: " حسنا, أرجع إليه وأخبره أن يذهب إلى القصر, هو والبارزون أكثر من أعضاء المجلس, بما فيهم الشيخ اليافعي ناصر , ويبقوا السلطان حازما")(21) .
ويمضي بوستيد في روايته ( .. وفي حوالي الساعة الثامنة بدأت أسمع الهدير المشئوم للحشود وهي تملا شارع المكلا الرئيسي, وأمرت كنيدي, نائبي أن يتلفن إلى جيش المكلا النظامي ويأمره أن يستعد بسيارات الحمول في الثكنات لإحضار الجنود في الحال إذا ما دعت الحاجة. ويجب أن لا ينزلوا من ثكناتهم بالديس , إلا بأمر)(22).
(ممثلوا الجماهير ) في مواجهة السلطان
يستطرد راوية الحدث و "بطل" وقائعه , في رياح صباحه الدامي , قائلا: (.. وتجمعت الحشود في ميدان القصر, وحاول بعض الشباب الطائش أن يوقف سيارتي وأنا داخل إلى القصر. وأمرت السائق أن يندفع بينهم, فتفرقوا من طريق السيارة محطمين زجاج نوافذها أثناء تراجعهم. وصعدت إلى القصر, فوجدت السلطان والشيخ ناصر البطاطي والشيخ القدال, وثلاثة آخرين. وفي الحال جاء وفد . وكان السلطان الذي حنا ظهره الطويل مرض الروماتيزم والتهاب المفاصل جالسا فوق أريكته , وهو في منتهى الغضب. وعندما ظهر الوفد حملق فيهم السلطان . ولم يحدث من قبل أن وُوجِه بمعارضة مباشرة لأوامره . وجلسوا مقابلين له على الكراسي, وتكلم الناطق بأسمهم قائلا: "لقد جئنا نيابة عن الشعب لنقول لكم : أننا لا نريد سكرتير الدولة من غير الحضارم" فأجاب السلطان بجفاوة بأن هذا التعيين من اختصاصي وليس من شأن العامة, فهو الذي يدفع للوظيفة وليس هُم. وعندئذ قام الشيخ القدال وألقى خطبة رائعة وأنهاها بقوله : "لقد عرفتكم خلال الأربع عشرة سنة الماضية, وقمت بتعليم أولادكم , وعرفتموني كأحد أعضاء مجلسكم, ولم أسمع من قبل أحداً منكم يتكلم ضدي " . فشعروا بالإحراج والعصبية ثم تقدموا ليصافحوه , وقالوا: " سننزل إلى الجماهير ونخبرها بأننا نرغب في الاعتراف بك".
ويستدرك بوستيد , مواصلا روايته لوقائع الحدث ( .. إلا أنه في هذا الوقت كانت الأصوات العالية ترتفع فوق كل ميدان القصر, وبدأت الحشود في تحطيم الزهريات والنوافذ في أسفل القصر. وسمعت طلقة, ورأيت الجنود يُغلبون من قبل الجماهير, الذين جردوهم من بنادقهم. وقد كان هناك ستة من الحرس فقط في النوبة. وقام الشيخ ناصر , وكان شخصا ضخما طوله أكثر من ستة أقدام, فنزل إليهم ليتناقش معهم في الأمر, فأُسكِت عن الكلام, واستقبلوه بسيل من الأحجار . وعندما سمعنا الأصوات الهادرة أطلعنا السلطان بسرعة إلى غرفته في الطابق الثاني من القصر, وأرسلُت شخصا ليتلفن إلى كنيدي كي يخبره بإحضار جيش المكلا النظامي في الحال. ونزل الوفد إلى الحشد فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة , وبدأتُ أسمع تحطيم الأبواب في الأسفل, وسرعان ما شاهدت المتظاهرين في بهو القصر , وبينما أنا أعبر الباب هاجمني صومالي بهراوة . وعندما كان يهوي بها عليَّ جُررت إلى الخلف, وأُغلق الباب بقوة من الخلف . وكان الذي قام بهذا العمل هو الشيخ ناصر. وأما هراوة الصومالي فقد دقت عطفة الباب, ولم أصب بأي سوء . وفي أسفل القصر كان هناك مزيد من الصراخ وتحطيم النوافذ والأبواب)(24)
وتخضب الميدان بالدماء
( .. ثم سمعت –والكلام موصولاً لبوستيد- وابلا من الرصاص في ميدان القصر, أعقبها في الحال صراخ وأنين , ثم تبع ذلك وابل , آخر من الرصاص, ونواح أكثر من الأنين والألم . لقد حضر جيش المكلا النظامي(25) تحت قيادة القائد بن صميدع , ووجد أبواب المدينة الحديدية(26) مغلقة في وجوههم . فلما رأى بن صميدع ذلك, وكان سريعا كالقط, قاد طابورا من فوق سور المستشارية(27) , فدخل ميدان المستشارية , ومن بابها دخل إلى ميدان القصر. وقام بصف جنوده في الطرف الشرقي من ميدان القصر, وأمرهم بالانبطاح . ثم صرخ للحشود بأن يتوقفوا , وما لم فسيطلق النار عليهم . وقد أطلق الوابل الأول من الرصاص فوق رؤوسهم . فصرخوا "هجوماً هجوماً على الجنود هجوماً . أنهم يساوون عشرين روبية فقط (مشيرين بذلك إلى رابتهم الشهري) , ثم تقدموا نحو جنود أبن صميدع. وأطلق النار مرة ثانية, وسدد الطلقات هذه المرة إلى صدور الجموع . فسقط ثمانية عشر قتيلا(28) , وجُرح سبعة وأربعون , فدارت الجموع و فرّت نحو البوابة , ومن بقيّ منهم في القصر ولى هاربا بأقصى سرعة ممكنة . واستمر السلطان, الذي كان يعبر عن عواطفه بالغضب, استمر السلطان يردد :" كلاب .. كلاب" . وعقدنا بعدئذ جلسة مع الشيخ القدال فقلت : " يجب أن نفرض منع التجول في الحال , وعلى جيش المكلا النظامي القيام بالدوريات في الشوارع " . وتم القبض على زعماء الحركة, وحوكموا من قبل محكمة خاصة مكونة من ثلاثة نواب (محافظين) وعضوين من المجلس . وقد أُدين حوالي سبعين شخصا , وحُكم عليهم بالسجن, وتراوحت فترات سجنهم بين ثلاث وخمس سنوات)(29)
ما بعد العاصفة
على الرغم من دموية الحدث, وكثرة ضحاياه , ومشروعية مطالبهم, إلا أنه لم يحظ بأي موقف (إدانة, شجب, استنكار, ....الخ) إزاء مرتكبيه , من قبل المنظمات والهيئات العربية والإقليمية والدولية , القائمة حينذاك.
وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال : لماذا؟ يجيب عن السؤال "بطل" الحدث وراوية وقائعه , المعتمد/المستشار البريطاني هيوبوستيد , في رياح صباحه الدامي (.. بعثتُ برقية خاصة إلى حاكم عدن, وطلبت منه أن يتأكد بأن لا شيء ينشر في الصحف سوى الخبر الذي بعثت به إليه . وفعلا ظهرت ثلاثة أصدر فقط في جريدة التايمز . وبعد ثلاثة أسابيع من كل هذا نُصِبّ الشيخ قدال سكرتيراً /وزيراً جديداً للسلطنة) .
وقبل إجراءات ومراسيم التنصيب للسكرتير/الوزير الجديد , وربما بالتزامن معها , "قامت السلطات بمهاجمة مقر الحزب الوطني , وأغلقته, واعتقلت بعض قادته , وأودعتهم السجن , والبعض نُفيّ من البلاد في يناير 1951م"(30)
ويستطرد بامطرف في تقييمه ( .. لقد كنا في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات (من القرن العشرين) متأثرين سطحيا بالمتغيرات السياسية الجارية في بعض الأقطار العربية , وفي بعض الأقاليم الآسيوية, والأفريقية, القريبة منا , وكان النضال الوطني في تلك الأقطار مُتخذاً , من ناحية عامة , طابع التطور الدستوري, أو رفع التظلمات , أو التكالب على الوظائف الحكومية مع ارتداء لباس تجار السياسة )
ما الذي كان ينقصنا؟
وعن هذا السؤال يجيب المؤرخ بامطرف (كانت تنقصنا الثقافة السياسية المستنيرة , وكانت كل مناقشاتنا والآراء التي نحملها, أصداء لما كنا نسمعه, أو نقرأ عنه, مما كان يدور في الأقطار الأخرى. ولم يكن لدى الأغلبية الساحقة منا موقفاً محدداً , كانت لنا مواقف من قضايا معينة , ولكنها كانت مواقف زئبقية , أو كانت خفيفة الوزن , سرعان ما تعصف بها رياح التذبذب الفكري, ولم يكن لدينا خط سير واضح , أو نظرية محددة , وكنا نتوسم خيراً في الجميع, ونصيح خلف كل ناعق, بمعنى أننا لم نمتلك الأصالة, بل أننا كنا طفوليين في مقدماتنا التي نرتب عليها نتائج تفكيرنا)
ويؤكد بامطرف في سياق تقييمه ( أن حادثة القصر سوف تفيدنا فائدةً لا يُستهان بها , إذا ما نظرنا إليها على أنها قضية وطنية , جديرة بأن تمنحنا القدرة على النظر من خلالها إلى آفاق بعيدة , والتجول في تلك الآفاق) .
ويمضي في تقييمه (.. ومما بلغني أن أحدهم قال في المجلس الذي كان السلطان يقابل فيه أعضاء الحزب : "يا سلطان , أفهم أنك برجالك, وعشيرتك , وخبرك وعلمك, لا تخليّ السُفل يفرضون عليك سكرتير دولة حسب رغبتهم . اليوم بايفرضون السكرتير وبكره بايقولون لك أطلع من البلاد " كان لهذا الكلام أثره في تصلب موقف السلطان من مطالب الحزب الوطني , وهو على أيه حال صوت الحزازات الغائرة في نفوس قطاعات الشعب آنذاك )
ما ينبغي تعلمه من (مجزرة ) القصر
يقول المؤرخ بامطرف ( .. لن نكون مجازفين بالقول إذا ما رددنا هنا , أن الحوادث التاريخية قد علّمتنا, أن حادثة القصر , مثلها مثل العديد من حوادث التاريخ الهامة , سوف تُعاد روايتها , حديثاً وكاتبةً, وستستعاد على مر السنين, وعلى صور متعددة, مختلفة الأشكال والألوان, وبمنطلقات ومفاهيم مختلفة , تجاوباً مع فلسفات الرواة والكُتاب , أي كان حافزهم للتعليل أو التفسير أو التحليل . لكن شيئاً واحداً من خلال كل ما ذُكر من الملابسات التي أكتنفت حادثة القصر , لا ولن تستعصي على تحليل المؤرخ المُنصِف , الآن , وربما في المستقبل , ذلك الشيء هو أن الحادثة أماطت اللثام في حينه , عن كراهية للحكم الانجلوسلاطيني, كان مفعماً بها فؤاد الرجُل العادي , وأن احتدام تلك الكراهية بين ضلوعه , دفعت به للتعبير عن غضبه على السلطان القعيطي , ومستشاره البريطاني بطريقته الخاصة.
حادثة القصر .. لماذا لم تشكل إرهاصة ؟؟!!
السؤال الافتراضي منا , والإجابة عنه للأستاذ بامطرف ( لقد ظلت حادثة القصر, وقتاً طويلاً, تبحث عن أن تجعل من نفسها إرهاصة, لنضال وطني مكثف, ومستمر, في حضرموت , ولكن الدم المسفوك فيها , أبتلانا بغاشية لم نستطع نفسياً التخلص من آثارها , فالذين استنكروا حادثة القصر, من البرجوازيين, الكبار, والصغار , من ذوي النزعات الضيقة , قد أماتت في أنفسهم, وإلى درجة محسوسة, أساليب القمع والإرهاب التي استعملت في حادثة القصر , أماتت في أنفسهم مزايا التحرك السياسي المُنظم المرن , ولا يُنكر أنه قد كانت في البلاد فئة واعية , تعلم أن وجود الحكم الانجلوسلاطيني عار على حضرموت بأسرها , وأنه لا خلاص إلا بالقضاء عليه بالقوة , لكن أولئك انطووا على أنفسهم بعد الحادثة, وانعزلوا عن الشعب وحاجاته اليومية , ولم يستطع أحد منهم, توجيه مظاهر السخط العفوية, لصالح النضال الجماهيري, ضد الاستعمار والرجعية . لقد أظهرت لهم الحادثة أن النضال السياسي, تواكبه تضحية دموية, لم تخطر لهم على بال, من قبل .
ثم أن انخراط الشباب المثقفين في الوظائف الحكومية بحضرموت , وكنتُ أنا أحدهم , وكانت ولا تزال ثقافتي محدودة جداً , أُحيط حتى نشاطهم الثقافي بالكثير من الريبة الشعبية في نواياهم , وعدّ الناس حركتهم الثقافية صورة من صور الضغط على الحكومة لزيادة مرتباتهم لا أقل ولا أكثر).
من بداية ديسمبر 1967م إلى فبراير 1968م, اشتركت المرأة في الدفاع عن العاصمة صنعاء, وحملن عاملات مصنع الغزل والنسيج, السلاح, عن اندفاع ثوري..
في ظل حُكم النظامين الاستعماري البريطاني, والإمامي الظلامي, كانت سائر فئات الشعب اليمني تعاني ويلاتها, غير أن المعاناة التي كانت ترزح تحت وطأتها , المرأة, أشد وأنكى.. وإذا كان الجوع –يومذاك- يُطال جميع الفئات، فأن العري كان من نصيب المرأة وحدها وبصورة لا يصدقها العقل.
(يقول أحد الموكلين بجمع الضرائب أنه وصل إلى قرية الحداء ليجمع الضريبة الفادحة, وكان يعجب لخلو تلك القرية من النساء, فلا تقع عينه على امرأة في النهار, وقد سأل الرجُل عن السبب, فقيل له, أنهن يلبسن البيوت في النهار, ولما دنا الليل لبسن الظلام, وخرجن لمباشرة عملهن) .
ويقول جندي من جنود نظام الإمام يحيى : (كنتُ في قرية من قرى تعز, وكنتُ في مهمة تعداد الغنم وجمع الضرائب, فكنتُ أرى الناس يأكلون الشجر, وكنتُ أرى الفقر مجسما في كل ما حولي, ولكني عجبت عندما أمرنا أحد الرجال بغض أبصارنا, لخروج النساء, فعجبت, كيف يُحجبون نسائهم وهم في هذا الحال من البؤس, وعرفتُ في الأخير, أن في ذلك البيت خمس نسوة, لا يملكن سوى قميص واحد, ترتديه التي ستذهب منهن لجلب الماء, وتبقى الأخريات في البيت عاريات, وعندما تريد أحداهن الخروج إلى المطبخ لصنع الطعام, تطلب من الآخرين غض أبصارهم) .
ولم يكن حال المرأة في جلّ أرياف وبوادي وحواضر اليمن –حينذاك- يختلف كثيرا عن المثالين اللذين أتينا على الاستشهاد بهما قبل قليل. فهذا الرحالة الهولندي (ديرميولين) في كتابه (رحلة من عدن إلى حضرموت) مسجلا مشاهداته وانطباعاته عن الأخيرة , عام 1931م, يقول : (رأينا في لحظة لمحات خاطفة من الفقر المدقع, ورتابة الحياة, والجوع في قرية من هذا الجزء من حضرموت, حيث هلك الناس, وأمتصت الحروب قواهم, والرجال الذين عاشوا مآسيها, هربوا إلى بلاد أجنبية) , ويأتي الرحالة (دير ميولين) على خاتمة ملاحظاته الانطباعية: ( أدركنا أن انعدام الأمن هنا, مسألة أخطر مما كنا نتصور, أدركنا أننا وسط أناس يتطلعون إلى يد قوية, تحقق الاستقرار والأمن والقانون) .
ولتحقيق هذا الحلم المشروع, والغاية الوطنية التي يهجس بها الوجدان الجمعي للشعب, أجترحت المرأة اليمنية بطولات ومآثر, وتجثمت الصعب بعيني زرقاء اليمامة, وفدائية (جان دارك) وقد ((برزن في الثلاثينات (القرن الميلادي الماضي) بطلات شعبيات (كأم أولاد أبو دنيا) و (فندة الدرويشة) .. فقد رويّ عنهما: أنهما كانت تصدان الزحوف الإمامية, وأن انتهت هذه المقاومة بالاستسلام), وعلى الرغم من ذلك لم ترفع المرأة, الراية البيضاء.
وعود على بدء ففي آخر الأربعينيات تزايدت أعداد البطلات المجهولات, وبعضهن من عائلات المناضلين, وبعضهن من العاملات في دورهم, وبعضهن من عائلات أجراء مزارعهم, "فقد كُن يحملن الرسائل بين المناضلين من بيت إلى بيت في المدينة أو القرية الواحدة, ومن (صنعاء) إلى بعض المناطق, ومن بعض المناطق إلى (صنعاء), "وقد دفعن هؤلاء النساء أفدح الضرائب لوجه ذلك التحرك, فبعد سقوط الدستور (حركة 1948م) كابدن الإرهاب, والتأيّم, وأبوة الصغار, نيابة عن الأب القتيل أو السجين".-عبدالله البردوني, اليمن الجمهوري, ص209-.
هذا مع درايتنا ووعينا بأن الأم اليمنية مجبولة على القيام مقام الأب في غيابه, "لكنها في الريف أسهل حملا منها في المدينة, لأن الريفية تعودت حمل العبء في حضور الزوج وغيابه, أما بنت المدينة فقد فاجأتها المسئولية الثقيلة, فأخرجتها من نعم الدلال إلى مواجهة الريح والهجير وزحام الأسواق" كما جاء في " اليمن الجمهوري " للأديب عبدالله البردوني, , ص279-.
ولعل من أبرز وأهم الأحداث التغييرية في حياة المرأة التي شهدها النطاق الجغرافي الذي كان يعرف بالمملكة المتوكلية اليمنية , أنه في العام 1957م , افتتحت مدرستان للتمريض في صنعاء وتعز فالتحقت بها جموع من القارئات.. من زوجات وأبكار وأرامل ومطلقات, وقد واجهن معارضة قاسية, لم يخفف من قسوتها إلا أنها عن أمر (الإمام) .. وهذا أول خروج نسائي, من سجون الجدران , إلى الحياة العملية المباشرة.
وكما كان هذا أول خروج نسائي فقد شكل النقطة الأولى من التحول .. ففي العام 1961م , قمنّ الممرضات بأول إضراب في تاريخ بلادنا احتجاجا على إهمالهن من المرتب الشهري, ونجحت تلك المغامرة الناعمة كباكورة تحديات.. تلت هذه الباكورة , المظاهرة الطلابية في المدائن الرئيسة العام 1962م, وبعد شهور أشرقت الثورة في أرديتها العسكرية والثقافية .
وقد اُستقبل هذا الحدث العظيم بتظاهرة للنساء في تعز إلى جانب الرجال , صبيحة ال26 من سبتمبر 1962م .
وفي 3 أكتوبر 1967م أشعلت أفواج من النساء, مظاهرة إلى جانب مواكب الشباب, وكانت أعداد النساء تقرب من 40 %, وأغلبهن من طالبات المدارس والمدرسات , وعاملات مصنع الغزل والنسيج, على حداثة عهدهن بالعمل الوظيفي والعمالي.
انتفاضة المقاطرة
ويسترسل الباحث سالم محفوظ بالقول: تميزت انتفاضة (المقاطرة) (1339ه/1920م-1340ه/1921م) على نظائرها من التفجرات الوطنية" بانها حُظيت بما لم يحظ به سواها من الوفرة في الأشعار والمدونات التاريخية, ويتجلى الانتفاضة دور المرأة المقاومة واستبسالها فيها, باعتراف شاعر ومؤرخ النظام الإمامي (عبدالكريم مطهر) في كتابه الذي لم ير النور (رأس الحكمة في سيرة إمام الأُمة) حين قال : (وقد مرد أولئك القوم (يقصد المقاطرة بزعامة آل علي سعد) على العصيان حتى أثروا على النساء, فكنّ يشتمنّ الجنود بأعلى الأصوات, وبالكلمات النابيات). ونحسب أن (مطهر) هنا قد أتى بما يعاكس ما كان مألوفا في البيئات العربية, حيث كُنّ النساء العربيات يضطلعن بدور المُستنهض لهمم المحاربين, وتأجيج مكامن القوة فيهم, ودفعهم للاستبسال في مقاومتهم للعدو, الأجنبي أو المحلي, ولم يكن هذا من أدوار الرجال تجاه النساء, وهنا طاش سهم (مطهر) وهو قد ردد استنكاره هذا على المقطريات في أكثر من موضع في كتابه, ((لأنه أعتاد تقديس النساء للإمام, وأراد أن يقيس نساء (المقاطرة) بنساء (صعدة والحيمتين), حيث كانت كل أم تلقن أطفالها كرامات الإمام وانتصاره ومزايا شخصيته)).
-كما يقول الأستاذ البردوني- ما أثار استنكار (عبدالكريم مطهر) على نساء (المقاطرة) "ولم يسجل على النساء في المناطق المتمردة الأخرى, أي خبر, لأنهن لم يدخلن المقاومة كالمقطريات اللواتي كن يرمين الجيش الإمامي بالحجارة ويضربنه بالفؤوس)
وكما إن المرأة مسعر للمقاومة ومؤججة لنارها المقدسة ، إذا ما دعت الدواعي ، كما في حال (المقطريات) فأنها – أيضا – رسول محبة وحمامة سلام إذا ما جنح أهلها إليه كما في حال (الحضرميات ) إذ أن المراجع التاريخية تكاد تجمع على أن (حضرموت) عاشت لأجيال عديدة ، تتناوشها عواصف وسهام الاحتراب الأهلي، والحروب القبلية والثارات وبالتالي انعدام الأمن والاستقرار وما يترتب على غيابهما من آثار سلبية على حياة الناس المعيشية والتنمية المجتمعية.
لذا " سعى الكثيرون من أهلها جاهدين من أجل السلام وفي عدادهم النساء اللواتي أدين دوراً مهماً في صنع السلام من وراء الكواليس ووجدن عبر دورين إنجرامس- قرينة وليام هارولد إنجرانس المستشار السياسي المقيم بحضرموت ناطقاً بلسان حالهن ،يسمع صوتهن للجميع، إذ سمح لها بالتواصل مع النساء وولوج عالمهن أثناء رحلاتها وتنقلاتها في أنحاء حضرموت مثلما استطاعت الدخول الى مجالس الرجال وعالمهم وحثت الفساد على إقناع الرجال بتوقيع وثيقة السلام(تعرف بأكثر من اسم: سلام إنجرانس ، هدنة إنجرانس) وكان بعضهن أرامل أو ثكالى سقط رجالهن وأبنائهن في القتال ،وبعضهن فقدن الأشقاء والأقارب" – عبد العزيز القعيطي ،المرجع السابق،ص94-
وقد أثمرت الجهود عن (1400) توقيع لمقاومة(شيوخ) كبريات القبائل وأقواها شكيمة وأشدها بأساً في حضرموت، على نص المعاهدة التي بموجبها استأصلت الثارات القبلية من شأفتها وانتهت عهود طوال من الاحتراب الأهلي وإقلاق الأمن والسكينة العامة للمجتمع والاحتكام للنظام والقانون ،وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة وتمكين السلطتين (القعيطية والكثيرية) من بسط نفوذهما إلى أقصى نطاق جغرافي يخص كل منهما، بعد أن كان لا يتعدى عاصمتيهما (المكلا/سيئون) .
وبتجريد القبائل من السلاح ،خيم السلام على أرجاء حضرموت ، بل وتأسس مجلس سلام يضطلع بإخماد الفتن ونزع فتائل الصراعات قبل إشعالها ، وقد أعلن عنه (المجلس) رسمياً في 24يناير العام 1937م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.