ال مع تحول العالم إلى قرية كونية اختلطت الثقافات على بعض الناس حتى خيل للبعض أن الولاياتالمتحدة بكل ظلمها وبطشها بالعالم الإسلامي قد تصلح بديلاً لنظامه الوطني.. ولعل هؤلاء لم يسمعوا بعد بحكمة كونفوشيوس. فالحكيم الصيني كونفوشيوس كان مر على بلدة ما ورأى امرأة تجلس على قبر ولد لها وتنتحب نادبة إياه، ثم مر في العام الثاني فإذا بنفس المرأة تبكي على قبر ولد آخر، وفي العام الثالث تكرر نفس المشهد فما كان من الحكيم كونفوشيوس إلا أن اقترب من المرأة وسألها عن قصة أولادها الذين تقبرهم كل عام، فأجابت المرأة أن ذئباً في بلادنا يأكل لي كل ولد ألده، وقد أكل هذا العام زوجي أيضاً. قال الحكيم للمرأة: لماذا لم تفكري بالرحيل إلى بلد آخر لا يوجد فيه ذئب؟ فأجابت أنها لا تريد أن ترحل من هذا البلد لأن حاكمه عادل، التفت كونفوشيوس إلى طلابه قائلاً: خذوا العبرة من هذه المرأة فالناس يرون أن الحاكم العادل كفيل بجعلهم يصبرون على مكايدة أقسى المعاناة والآلام لأنهم واثقون بيوم القصاص من الظلم، أما الظالم فهو أشد قسوة من أنياب ذئب.لعل القيم التي تحتويها أمور الدنيا اختطلت على بعض الناس، بل إن كثيراً من القضايا فقدت قيمتها عندهم، فلم يعد أحد منهم يفرق بين الصالح والطالح، فصاروا يبدلون الذي هو خير بالذي هو أدنى.. فبعد أن كان الدين يمثل قيمة أخلاقية وإنسانية صار البعض يفهمه كقيمة تجارية، وسياسية ويعيد التاريخ إلى القرون الوسطى ليلعب دور الكنائس الأوروبية حين كانت تعزل الحاكم الذي لا يداري مصالحها بفتوى من «روح القدس» ورؤيا من «السيدة العذراء» مستثمرين بذلك جهل المجتمع بكثير من قضايا اللاهوت.وحتى في نطاق المجتمع القبلي في اليمن لم يعد البعض مؤمناً بأخلاقيات «القبيلة»، ولم يعد يكترث لمفاهيم كتلك التي حملها المأثور من القول: «عز القبلي بلاده ولو تجرع وباها»، أو حتى بتلك التي قالها رجل البادية «عز الخيل صبولها».. فهذه كلها باتت مجرد نسي منسياً ما دامت تتقاطع مع المصالح الشخصية التجارية أو السياسية.إن هذا القفز ينطوي على خطورة عظيمة على أمن الحياة الاجتماعية قبل السياسية، لأن انهيار القيم الأخلاقية عند نخب الواجهة في المجتمع يعني إباحة هذا المجتمع للظلم والاستغلال، والانتهاكات الإنسانية وتحويل الحياة إلى مجتمع غاب تحكمه المصالح وليس القيم.. وهو ما تحاول بعض القوى بلوغه بأي ثمن كان لمجرد أنها بلغت من الثراء والنفوذ الاجتماعي ما يجعلها أحد صيادي الغابة وليس إحدى فرائسها.إذا كان البعض غير قادر على استيعاب حكمة كونفوشيوس في التضحية من أجل العدل، فإن بوسعه أن يدرك درس هيمنة القوى الانتهازية من ساحة العراق.. فالانقلاب الحقيقي في العراق هو انقلاب أخلاقي وليس سياسياً، إذ أن قوى الاحتلال أتاحت كل سبل تمكين الانتهازيين لقيادة الشعب العراقي.. فالذين خانوا بالأمس، أو هربوا من جرائم ولاذوا إلى حماية لندن وواشنطن إلى جانب الذين نهبوا بنوك العراق وباعوا آثاره هم من تولوا الشؤون السياسية للبلد.. وإذا بالنخب الاقتصادية والتجارية والثقافية التي تكونت عبر تراكم زمني طويل تنتهي بين ليلة وضحاها لتحل بدلها قوى جديدة تسللت إلى الساحة تحت بيارق الشعارات السياسية وبقوة السلاح الفتاك لجيوش الاحتلال.ومن هذه النقطة يمكن فهم أوضاع العراق، وحقيقة التغيير الذي حدث، ثم أسباب الفوضى والإرهاب وبحيرات الدماء التي لا تكف لحظة عن الجريان.من الصعب جداً الوثوق برجل يظهر فجأة في موسم انتخابي، ويدعي أنه وطني مخلص، ويطالب الجماهير بإشعال حرب شعبية لتغيير الحكم.. ليس لمجرد أن ذلك الشخص لا يمتلك تاريخاً سياسياً معروفاً، بل لأنه ظهر في غير الموسم الصحيح الذي كان يجب عليه إبراز نفسه فيه.. فالشعوب تنتظر من يؤازرها على الفقر والجهل والفساد منذ لحظة إطلاقها الأنين، وليس من يزجها إلى أتون حروب وفتن على أمل أن يناصرها مستقبلاً.. إذ أن الذي لا يتسطيع إثبات جدارته في الحاضر لا يمكن المقامرة بالوثوق بوعوده مستقبلاً.ومهما يكن المفهوم فإن هناك قيماً ثورية الجدير بنا استلهام التجارب منها، وهي جميعاً تؤكد أن الشعوب الحرة الأصلية هي التي تفرض إرادتها بنفسها على الواقع، وليست التي تنتظر الغرباء لتمكينها من حصاد ما زرعه الأولون، ومن حماية كرامة فرط بها أهلها، ومن صيانة أمانة على غرار من يودع كبشاً عند ذئب متوحش.