يروى أن الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) مر ذات يوم على بلدة فرأى امرأة تجلس عند قبر ولدها وتنتحب نادبة إياه.. وفي العام التالي سلك طريق نفس البلدة، فوجد المرأة ذاتها تبكي عند قبر ولد آخر لها، ثم تكرر المشهد نفسه في العام الثالث، فما كان منه إلا التوقف عندها ليستكشف أمرها. سأل كونفوشيوس المرأة عن قصة أولادها الذين تقبرهم كل عام، فأجابته:" أن ذئبا في بلادنا يأكل لي كل ولد ألده، وقد أكل هذا العام زوجي أيضا" ؛ فقال لها: " لماذا لم تفكري بالرحيل إلى بلد آخر لا يوجد فيه ذئب؟" ، فردت: " لا أريد الرحيل من هذا البلد لأن حاكمه طيب القلب وعادل ينصف كل من استجار به؟!" التفت الحكيم كونفوشيوس إلى طلابه وقال: " خذوا العبرة من هذه المرأة، فالناس يرون أن الحاكم الظالم المستبد أشد عليهم قسوة من فك وحش مفترس يأكل أولادهم". هذه القصة تفسر أهم أسباب انتفاض بعض الشعوب على أنظمها، وتؤكد أن اليمنيين ما كانوا ليفجروا ثوراتهم (1967،1963،1962،1955،1948م) لمجرد أنهم كانوا يقاسون حالة الفقر، والجهل، والعزلة، بل لأنهم أيقنوا أن النظام الحاكم هو سبب كل تلك المعاناة التي يكابدونها، وأنه بدلا من السعي إلى مساعدتهم للتغلب على الواقع المرير كان يُمعن في ظلمهم، وسلب إرادتهم، ونهب أرزاقهم، وإذلالهم ، وتسليط عليهم من لا يرحمهم من عماله المستبدين، أو ضباطه- بالنسبة لمن هم تحت الاحتلال البريطاني.. ربما لو كان الإمام عادلا، والبريطانيون مخلصون ومنصفون لكان بوسع اليمنيين الصبر على ظروفهم، لأنهم – حينئذ- سيأملون أن تتبدل الأمور، وتتحسن الظروف في ظل سعي الأنظمة لذلك.. لكن اليأس من هذا كان كفيلاً بإيقاد فتيل الثورة، وبذل التضحيات من أجل غد الأجيال. إن المقارنة التي أوجدها كونفوشيوس بين الحاكم الظالم والوحش المفترس كفيلة بتبرير حالة تحول نظام الحكم في اليمن إلى خيارات الديمقراطية التي تلغي الصناعة الاحتكارية للقرار السياسي، وتجعل من الشعب شريكا في السلطة عبر مؤسسته التشريعية، في نفس الوقت الذي تناط العدالة بسلطة قضائية مستقلة لا تخول الرئيس (الحاكم) حق التدخل في شئونها. ولكن السؤال الذي أمامنا اليوم هو هل كنا عادلون بما فيه الكفاية "لعدم التضحية بأبنائنا للذئب- كما جرى في قصة كونفوشيوس"؟ لا أعتقد أننا بلغنا ذلك الحد، فظلم الفساد حفز أناس كثيرين للدفع بأبنائهم إلى فكوك "ذئاب أخرى".. إلى محارق الإرهاب، والعمل "الجهادي" الارتزاقي.. إلى أسواق المتاجرة بالأطفال عبر الحدود.. إلى مستنقعات الدعارة.. إلى براثن العمالة للأجنبي.. إلى ذئاب عصرية تبدو مختلفة بالشكل عن ذئب "كونفوشيوش" لكنها لا تختلف بحجم الخسارة. أعتقد أن قيادة اليمن السياسية أدركت هذه الحقيقة المرة، لذلك عزم الرئيس على مكافحة الفساد.. إلاّ أن هذه المهمة ليست بالسهلة كما يتصور البعض، وحتى لو استكملنا وضع التشريعات والقوانين التي تحد من الفساد، فإن هناك ثقافة عامة في المجتمع ترسخ الفساد، ومن المهم اجتثاثها بتنمية الوعي ليست على طريقة "هيئة مكافحة الفساد" التي نشرت الملصقات في الشوارع التي تحمل صوراً لا علاقة لها بمأساة الفساد، ولا تحرك إحساس أحد.. بل عن طريق تنمية وعي عام يبدأ في مراحل مبكرة من عمر الفرد.. وعن طريق تحويل التلفزيون اليمني من ثقافة الإعلانات التجارية إلى ثقافة الإعلانات الوطنية التي لا يتقاضى عليها ثمناً.. وعن طريق تجنيد الصحافة الرسمية للعمل الطوعي وليس العمل المدفوع الأجر الذي تحول إلى استثمارات خاصة بتلك الوسائل الإعلامية.. فالبدء بالتوعية الحكومية الطوعية تشجع الآخرين في القطاع الخاص والإعلام الآخر للعمل الطوعي، والإحساس بقيمة التضحية من اجل الوطن.. اليمن حتى هذا اليوم لم تتحرك بخطوات جادة على طريق ترسيخ مفاهيم العمل الوطني (الطوعي) النابع من الضمائر.. فكل شيء يدفع له ثمن، حتى الترويج السياحي لا يقوم به الإعلام الحكومي بغير عقود اتفاقات مالية على الأجر. وفي هذا السلوك ترسيخ للمادية، وترسيخ لثقافة البيع والشراء.. وللأسف الشديد أن هذا هو جزء متأصل في السياسات الحكومية اليمنية ويساهم في إحباط جهود ومبادرات كل المخلصين في مكافحة الفساد سواء كانوا أفراداً أم قوى وطنية! إن الحقيقة التي يجب أن ينطلق منها الجميع هي أن الظلم، والفساد، وأي اختلالات أخرى تتخلل حياة بلد يمارس الديمقراطية لا يمكن معالجتها بغير المزيد من الديمقراطية، والوعي بالمسئوليات الوطنية.. فعندما تجتهد الأحزاب في تنمية تنظيماتها، والارتقاء بأدوات عملها السياسي، والاقتراب من الجماهير ببرامج صادقة وموضوعية، فإنها حتما ستحظى بالثقة، وستمسك بزمام القرار، ومن ثم التفاعل مع الواقع وإصلاح إختلالاله. وهو الأمر ذاته المناط بمنظمات المجتمع المدني التي بوسعها درء الظلم، ورصد الانتهاكات، وتعزيز الحقوق الإنسانية للمجتمع.. فكل ما هو قائم لم يعد من اختصاص رئيس الجمهورية، حيث أن الدستور لا يخوله التدخل في عمل مجلس النواب الذي بيده تشريع القوانين أو تعديلها، ولا بالقضاء الذي بيده كفالة العدالة ومحاسبة المخطئين. كل هذه الأمور تحولت إلى اختصاص صناديق الاقتراع التي بوسع مختلف القوى الوطنية التنافس على أرصدتها، وكسب الأغلبية البرلمانية، وتشريع كل ما تعتقده فيه خير اليمن وصلاحها.. أليس الفرق شاسع بين عهدنا والعهد الذي شهده كونفوشيوس!؟ يقول رسولنا الأمين – صلى الله عليه وسلم: (( الكَيِّسُ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَملَ لِما بَعدَ المَوتِ، والعاجِزُ مَنْ أتبَع نَفسَهُ هَواها وتَمَنّى عَلى الله الأماني)). [email protected]