في ظل الدكتاتورية وشعار من طلب السياسة دفع رأسه ثمناً لها، يموت الجبناء والفسول مرات عديدة قبل موتهم، وبهم وحدهم يجد المستبدون وقطّاعو الرؤوس جيشاً من المطبلين والمنافقين الذين يحرقون لهم بخور الولاء والطاعة، ويهونون لهم بساطة ما يستبشعونه من قتل الثوار والمناضلين وسجنهم وتعذيبهم والتنكيل بهم بأساليب مقززة.. بل وقد يتجاوزون ذلك بدافع حب الظهور والطمع في مصلحة إلى الانشغال بتأصيل مشروعية وإسلامية ما يقومون به من وحشية، وقد نجد بين هؤلاء الفسول والجبناء من يضع نفسه في خدمة أولئك الظلمة والمستبدين لتنفيذ ما يطلب منه من عمل في هذا المجال القمعي والأمني والاستخباري العنيف، باعتباره شرفاً وواجباً وطنياً وإسلامياً يكمل به دينه وعبادته إلى درجة من الانتهازية الدالة على عقول مريضة ونفوس ضعيفة تشبه في طاعتها ووداعتها حالة الغنم المرتعشة من فروسية الذئب، ووحشيته المتعطشة لدم الفريسة ولحمها، بلا رحمة ولا شفقة. قد يطلقون على أنفسهم مصطلح الحمائم المهادنة للظالم والمناصرة له، مقابل المصطلح السياسي للصقور المتمردة على الظالم والثائرة عليه. هؤلاء الجبناء الذين تصبح حياتهم عالة على الحرية وعائقة للحق والعدل، تعتقد الشعوب المغلوبة على أمرها أن موتهم أفضل من حياتهم، وأن عدمهم أفضل من وجودهم، لا حاجة لهم في مجابهة التحديات المصيرية، لأنهم يقتلون الحياة بضعفهم، ويقتلون الحرية بفسالتهم، ويقتلون البطولة بجبنهم، حينما يضعون أنفسهم آلة بيد الظالم، وفي ظل الديمقراطية القائمة على التعددية والتداول السلمي للسلطة، وحرية الصحافة، وحقوق الإنسان التي يتحول فيها الشجعان إلى جبناء أمام سيادة القانون، والذئاب إلى حيوانات أليفة ترعى الأغنام، والصقور إلى حمائم وديعة تدعم الأمن والسلام، والأبطال إلى مواطنين أحراراً يقدسون المساواة، ويعملون بصمت ونكران ذات، يخفون عن يسارهم ما تقدمه يمينهم من أعمال وطنية جليلة لله وللوطن وللثورة وللحرية والديمقراطية والوحدة والتنمية. في مثل هذه الظروف السهلة التي ينتفي فيها عامل الخوف ويستبدل فيها شعار من تحزب خان بشعار من لا انتماء له لا موقف له ولا قضية سياسية، ومن لا يشارك الشعب في دوراته الانتخابية لا وطنية له، ولا حاضر له ولا مستقبل، في هذه الأثناء التي يتحول فيها السياسيون المنتخبون إلى خدام للشعب وليسوا حكاماً عليه، يتنافسون على السلطة عبر الأحزاب بأساليب ديمقراطية سلمية خالية من العنف والخوف.. وتطلق فيها الحقوق والحريات على نطاق واسع ويتحول الفسول إلى شجعان، وتتحول الحمائم إلى صقور، ويتحول المدجنون من الحيوانات الأليفة إلى ذئاب مفترسة للقيم والأخلاق، لأنهم يعلمون سلفاً أن ما كانوا يصلون إليه بالذل والمسكنة والمهانة والعمالة والخيانة لشعوبهم، بات يحتاج إلى تغيير في الأساليب، وإتقان في الأدوار، وتبدل في الألوان بالمطلق حتى يتمكنوا من الظهور بما ليس هم، ويضمنوا الوصول إلى ما يحلمون به من المواقع القيادية والمكاسب المادية، بالفساد والإفساد والسفالة والنذالة. أغنام الأمس هم ذئاب اليوم والغد، وحمائم الأمس هم صقور اليوم والغد، وجبناء الأمس هم شجعان اليوم والغد.. وحثالات الأمس هم صفوة اليوم، وبخلاء الأمس هم كرماء اليوم والغد، وفسول الأمس هم أبطال اليوم وفرسان الغد. والعكس يتحول الأبطال والثوار والمناضلون إلى مواطنين يقدسون الحرية، ويعشقون المساواة ويحترمون العدالة، يالها من بطولة راكضة، ويا لها من فروسية كاذبة، تمتزج فيها المواقف المتناقضة وتتداخل فيها الألوان المختلفة والمتضادة وتختلط فيها الحسابات الدقيقة، وتصبح النساء مترجلات اسبرطيات يجاهرن بما لديهن من السفاهات والشجاعات الغائبة والبذاءات، ويتحول فيها خونة الأمس وعملاؤه الانفصاليون الأساسيون إلى قادة وإلى قضاة يحاكمون الثوار، وينالون من الشرفاء، وينكلون بالوطنيين، ويعذبون الأحرار بحكم ما يجدونه من أسواق وأبواق تروج لنباهاتهم وتفاهاتهم ووقاحاتهم ودناءاتهم السافرة. إنها الديمقراطية.. تبدأ فوضوية تغري الغوغاء، وتدفع الدهماء من الساسة إلى الموقف ضد أنفسهم، نظراً لمحدودية وعيهم وتشوش ما قد يحجب عنهم وضوح الرؤية في زحمة الضباب الداكن، وسوداوية السحب الكثيفة الملونة من أعمدة الدخان لبعض الوقت، لكنهم في موقع التجربة والممارسة الواقعية سرعان ما ينتقلون إلى الديمقراطية العقلانية، حينما يتبينون وضوح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليكتشفوا حقيقة الزيف ويقشعوا سواد الجهالة، يتبين لأنفسهم أين يكمن الصدق، وأين يكمن الكذب إلى درجة لا يستنكف فيها أصحاب المواقف المزيفة أن يكشفوا عن حقيقتهم بأنهم لا يملكون شيئاً من المقومات الإنسانية والعلمية الرفيعة للديمقراطية العقلانية البناءة، لا هم بالأبطال ولا هم بالشجعان، ولا هم بالذئاب، ولا هم بالصقور، لا قضية لهم ولا موقف ولا عزة لهم ولا كرامة ولا أخلاق تحمي الناس من فسادهم وأطماعهم وخداعهم وتلاعبهم بكل ما له قداسة وطنية وإنسانية ومبدئية وأخلاقية في ثقافة شعوبهم العربية والإسلامية..إنهم حفنة من المتطفلين على السياسة والصحافة، لا يجدون إشباع ما لديهم من المتعة واللذة السادية إلا بتعذيب شعوبهم وتمزيق أوطانهم، وتبديد ثرواتهم في متاهات الصراعات والخلافات السياسية والطائفية والمناطقية. لم نعد نخاف على شعبنا ووطننا الواحد من عودة الدكتاتورية، ولا حتى من عودة الشطرية الشمولية، لأن الوحدة والديمقراطية أصبحتا من الطاقات الوجدانية اللصيقة بحياة الشعب تولد لديه استعداداً من التضحية لاحدود لها بأي مقياس من المقاييس المعروفة، لكن الخوف على الوحدة من المراهقة الديمقراطية لا زال قائماً، يوجب على جميع الأحزاب والمنظمات الجماهيرية مراجعة ما يصدر عنها من المواقف الصبيانية التي تتعامل مع الثوابت بنفس العقلية المراهقة التي تتعامل فيها مع المتغيرات، غير آبهة بما يسفر عنها من تقاطعات تؤدي إلى الكثير من الاختناقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل أن تبلغ الديمقراطية مرحلة العقلانية الناضجة الدالة على التوازن بين الثقافة وبين الممارسة العملية، ولا يتأتى للمراجعة أن تثمر، ولا للعقلانية أن تسود من بداية اللحظة التي تنتهي فيها المراهقة الديمقراطية إلا إذا شعرنا جميعاً أننا بحاجة إلى الاقتناع بأن عهد الثورة الموجبة للشجاعة والبطولة قد انتهى، وأن المرحلة التي نعيش فيها لم تعد تحتاج إلى نضالات تندرج في نطاق المحرمات الموجبة للتضحية بالدم والروح، أي أن الاستبداد والظلم والقهر الذي يمنح المشروعية للشجاعة والبطولة والتضحية التي قدمها الآباء والأجداد قد زال بزوال مرحلة الشرعية الثورية والانتقال إلى مرحلة الشرعية الدستورية، ولم يعد لأحد الحق في منع الإنسان من حرية التعبير عما لديه من الآراء، وما لديه من التطلعات والطموحات المشروعة للمنافسة على أي موقع من المواقع القيادية في السلطتين التشريعية والتنفيذية، طالما كان لديه قاعدة شعبية مستعدة للثقة به وترجيح دفته على دفة منافسيه لم تعد الممارسات المستبدة عبر السياسة وعبر الصحافة، تندرج في نطاق الأعمال البطولية.. نظراً لما يترتب عليها من التجريح الذي يحتاج إلى دليل يحمي صاحبه من العقوبات القضائية المحتملة التي تحمل المواطنة المتساوية في الحق والواجب. ولما كانت المساواة هي الضمانة الأساسية العاصمة والحامية للضعفاء من الأقوياء وللناس من عدوانية بعضهم على بعض، فإن مسئولية السياسة ومسئولية الصحافة توجب عليهما الانتصار والحماية للمساواة التي تحرم على أصحاب الكلمة وأصحاب الرصاصة استخدام وظائفهم وصحفهم في العدوان على المواطنة المقدسة، التضحية المطلوبة في ظل الديمقراطية العقلانية تندرج في نطاق ما يمكن التنافس على تقديمه للوطن والشعب من الجهد والمال في شتى المجالات الخدمية والإنتاجية العلمية والعملية، أي أن التضحية بالدم والروح في مواجهة النظام المستبد لم تعد قائمة في ظل الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة، وحرية الصحافة ، وحقوق الإنسان، لأن مجالها ينحصر فقط في الدفاع عن سيادة الوطن ووحدته وسلامة أراضيه من أي عدوان، ولم تعد لازمة في مجابهة الحكام الذين يفرضون طغيانهم بقوة الحديد والنار كما كان يحدث من قبل ، الأمر الذي يحتم على الجميع الكف عن البحث عن بطولة في التطاول على بعضهم البعض ، والإساءة لبعضهم البعض، كأن تحاول الأحزاب الدخول في صراعات ايديولوجية وصراعات على السلطة بوسائل غير سلمية لأن الانتخابات هي البوابة السلمية الوحيدة للتنافس البرامجي دون حاجة إلى الاستخدام العنيف للقوة العسكرية والأمنية، إن أسوأ السياسيين هو الذي يعتقد أنه وجد فقط ليحكم، أو وجد فقط ليعارض إلى ما لا نهاية متوقعة. وأسوأ الصحفيين هو الذي يعتقد أن بمقدوره فرض جبروته من خلال سلاح الكلمة والحرف بدافع الرغبة في الابتزاز وبدافع الرغبة في الإساءة والتجريح والتسلط على المواطنين الأحرار.