كشف اعتراف إسرائيل بأرض الصومال عن أهداف جيوسياسية مرتبطة بالسيطرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، في سياق صراع نفوذ متجدد عقب اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023. أعاد الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بجمهورية أرض الصومال، المعلنة من جانب واحد، فتح ملف قديم جديد يتجاوز البعد الدبلوماسي التقليدي، ليضع البحر الأحمر ومضيق باب المندب مجددا في قلب صراع النفوذ الإقليمي والدولي، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية تشهدها المنطقة منذ اندلاع الحرب بغزة في أكتوبر 2023. الاعتراف الإسرائيلي لم يأت في فراغ، بل تزامن مع ما كشفه برنامج "المتحري" الذي بثته قناة الجزيرة قبل أسابيع وتحديدا بتاريخ (2025/10/31)، في حلقة خاصة تناولت "اليمن وإسرائيل وجذور الصراع"، حيث خلص البرنامج إلى أن البحر الأحمر ظل، على مدى نحو 8 عقود، مسرحا رئيسيا لصراع النفوذ الإسرائيلي، وفضاء مفتوحا لتقاطعات الجغرافيا مع السياسة والأمن. وأظهر التحقيق، المستند إلى وثائق وأرشيف تاريخي، أن اليمن شكّل على الدوام مصدر التهديد الأبرز لأمن إسرائيل البحري من الجنوب، وأن مضيق باب المندب ظل نقطة ارتكاز إستراتيجية في الحسابات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، منذ أول عملية عسكرية نفّذتها إسرائيل خارج نطاقها الجغرافي، وحتى اللحظة الراهنة. من اليمن إلى الصومال وفي أحد محاوره الأساسية، ناقش البرنامج الاهتمام الإسرائيلي القديم بالصومال، باعتباره جزءا من رؤية أشمل للسيطرة على مداخل البحر الأحمر، وربط بين هجوم 7 أكتوبر 2023، وما تبعه من دعم يمني للمقاومة الفلسطينية، وبين تسارع التفكير الإسرائيلي بضرورة إحكام النفوذ الكامل على البحر الأحمر، عبر ضفتيه الأفريقية والآسيوية. ووفق ما خلص إليه البرنامج، فإن إسرائيل، التي وجدت نفسها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 في مواجهة إقليمية مفتوحة على أكثر من جبهة، باتت في حاجة إلى حلفاء جدد في البحر الأحمر، بعيدا عن إثيوبيا وإريتريا، لأسباب إستراتيجية، من بينها إمكانية شن عمليات أو دعم حملات ضد جماعة أنصار الله في اليمن، وتأمين خطوط الملاحة الإسرائيلية في واحد من أهم شرايين التجارة العالمية. أرض الصومال فرصة جيوسياسية في هذا السياق، برزت أرض الصومال كخيار إستراتيجي ملائم، فمنذ إعلانها الانفصال عن الصومال عام 1991، عقب سقوط نظام الرئيس سياد بري ودخول البلاد في دوامة من الفوضى، ظلت أرض الصومال كيانا غير معترف به دوليا، رغم امتلاكها عملة خاصة، وجيشا، وجهاز شرطة، وتمتعها باستقرار نسبي مقارنة بالصومال، الذي لا يزال يواجه تمرد حركة الشباب وصراعات سياسية مزمنة. غير أن هذا الكيان ظل يعاني عزلة سياسية واقتصادية خانقة، وفقرا مدقعا، على الرغم من موقعه الجغرافي البالغ الحساسية على الضفة الجنوبية لخليج عدن، وعند مدخل مضيق باب المندب، أحد أكثر طرق التجارة البحرية نشاطا في العالم، والمؤدي مباشرة إلى البحر الأحمر وقناة السويس. وتشير معطيات التحقيق إلى أن هذه العزلة، مقرونة بالموقع الجغرافي، جعلت أرض الصومال مرشحا مثاليا لتعاون من هذا النوع، إذ يمكن أن توفر لإسرائيل مسرح عمليات قريبا من منطقة النزاع، في وقت تبحث فيه تل أبيب عن إعادة ترتيب أوراقها في البحر الأحمر. جذور التفكير الإسرائيلي ويعيد هذا التحول إلى الأذهان تصريحات قديمة لموشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، وردت في تسجيل أرشيفي بثه برنامج "المتحري"، قال فيها: "لدينا ناقلات نفط تمر عبر البحر الأحمر، وإثيوبيا هي إحدى الدول الرئيسية هناك. نحن مهتمون جدا بالحفاظ على علاقات جيدة مع الدول المطلة على البحر الأحمر. نحن لا نهاجم إثيوبيا، بل نبيعهم بعض الأسلحة. لدينا تعاون معهم منذ سنوات طويلة، ولم يكن لنا تعاون أبدا مع الصومال". وتكشف هذه التصريحات، وفق قراءة البرنامج، أن الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر قديم ومتجذر، وأن تغير مقاربة إسرائيل تجاه الصومال اليوم لا يعكس تبدلا في الأهداف، بقدر ما يعكس تحولا في الأدوات والرهانات. ويعزز هذا الفهم ما أشار إليه مضمون برنامج "المتحري" من أن الإستراتيجية الإسرائيلية قامت تاريخيا على إضعاف السيطرة العربية على البحر الأحمر، بحيث لا تكون ضفتاه الشرقية والغربية عربيتين بالكامل. صراع البحر الأحمر من جديد ورغم فترة من الهدوء النسبي التي شهدها البحر الأحمر منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وحتى نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة، أعادت أحداث أكتوبر 2023 في غزة هذا الممر المائي إلى واجهة الاهتمام الإقليمي والدولي، باعتباره ساحة صراع مفتوحة تتقاطع فيها المصالح الأمنية والتجارية والعسكرية. وبينما تبرر إسرائيل اعترافها بأرض الصومال باعتبارات دبلوماسية وسيادية، تكشف قراءة السياق الأوسع، كما عرضها برنامج "المتحري"، أن الخطوة تندرج ضمن إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة هندسة موازين القوة في البحر الأحمر، وتأمين المصالح الإسرائيلية في أحد أخطر الممرات البحرية في العالم.