يمكن القول: "إن فقدان المؤسسية في نظام الحكم، وغياب الحكم المدني بالإضافة إلى غياب التعددية الحزبية والسياسية، والضيق بالرأي الآخر، ومحدودية مجالات التعبير عن الرأي، وانسداد آفاق وقنوات المشاركة السياسية الشرعية هي مجموعة من أهم الدوافع أو الأسباب التي تقف وراء العديد من أعمال العنف والإرهاب وتجددها في العديد من مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي يستدعي ضرورة تحديد مختلف المعالجات الممكنة لتلافي مثل تلك الأسباب". وبمراجعة العديد من الأدبيات والتعريفات التي أعطيت لمصطلح الإصلاح السياسي، سواء على المستوى اللغوي أم المفاهيمي، يمكن أن نورد له تعريفاً أولياً وبما يتناسب مع عنوان هذه المقالة؛ حيث نقصد بالإصلاح السياسي «Political Reform» "عملية التحول التدريجي أو الثوري للنظام السياسي صوب الديمقراطية التعددية ومكافحة بؤر الفساد السياسي Political Corruption، بفعل عوامل ذاتية أو موضوعية، داخلية أو خارجية أو هما معاً". وعلى الرغم من تشكل مايشبه الإجماع في أوساط النخب السياسية العربية حول ضرورة الإصلاح السياسي، أو على الأقل هذا مايتراءى للمحلل والمتتبع للشأن السياسي العربي، فإن المشكلة تكمن في أن هذا الإجماع لم يترافق مع تطابق مماثلٍ في وجهات النظر حول معناه أو حول طبيعته ومداه، وكذا لم يتم الاتفاق حول الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه، والدوافع الفعلية التي أدت أو التي ستؤدي إلى تبني تلك الإصلاحات، ولذا تنبثق المشكلة في العديد من مجتمعاتنا العربية من حقيقة وجود ذلك التعدد في وجهات النظر وتمسك كل طرفٍ بما لديه دونما اعتبار لما في جعبة الآخرين من أفكار ووجهات نظر، وفي ظل غياب سياسة واضحة للحوار السياسي والنقاش الفكري، ونظراً لصعوبة الفصل بين مختلف التوجهات النظرية بسبب تداخلها في العديد من التفاصيل، فإنه من الممكن نظرياً على الأقل أن ندرجها ضمن الإتجاهين الرئيسيين التاليين: الإتجاه الأول: يعتقد مؤيدوه أن هذه الإصلاحات ينبغي أن تأتي نتيجة لرغبة داخلية في التغيير، وأن تكون نابعة من شعور محلي بأهمية مثل هذا التغيير، وليس مهماً في نظرهم هوية أو طبيعة الجهة التي تنادي بهذا الإتجاه «سلطة أو معارضة»، وكذا ليس مهماً طبيعة المشروع الذي تنادي به طالما أنه مناط بالمجتمعات العربية، وأن منبته من داخل المجتمع العربي، الإتجاه الثاني ويرى عدد من أنصاره أن الأمر له علاقة أو ينبغي أن تكون له علاقة بالضغوط التي مارستها ولاتزال الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولأسبابٍ مختلفة، على العديد من حلفائها من النظم العربية، والتي تقضي بضرورة إدخال إصلاحات سياسية، وهي نفس الضغوط باعتقادهم التي دفعت باتجاه عقد العديد من المؤتمرات العربية والدولية، وتحت مسميات مختلفة «كلها تدور حول قضايا الإصلاح السياسي في المجتمع العربي» هذه الضغوط التي زادت بكيفيةٍ واضحةٍ عقب ارتفاع الدعوات العلنية في الغرب، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية بصفةٍ خاصة على خلفية التفجيرات التي شهدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية في 11سبتمبر 2001م، وهي الدعوات التي نادت بضرورة التدخل لتغيير النظم السياسية في المنطقة العربية، والتخلي عن حلفاء الأمس، نظراً لعدم مصداقية مبررات استمرار التحالف غير المشروط معها.. وقد جاءت تلك الدعوات كما تشير أيمي هاوثورن «Hawthorne» منسجمة مع نتائج الجدل الذي دار في العديد من الدوائر الفكرية والإعلامية والسياسية الغربية حول دوافع التغيير وإتجاهاته في النظم العربية باعتبارها أحد السبل لتجفيف منابع مايسمونه «الإرهاب» والأصولية، ومحاربة تنظيم "القاعدة" والجماعات المرتبطة به، وتشير إيمي هاوثورن «Hawthorne» إلى أنه وبالرغم من تشكل إجماع وسط النخبة السياسية في المنطقة العربية حول ضرورة الإصلاح السياسي، فإنه لم يترافق مع تطابق في وجهات النظر حول المعنى المقصود بالإصلاح السياسي؛ حيث تشير إلى وجود ثلاثة منظورات مختلفة جداً حول الإصلاح السياسي: المنظور الأول: ويمثله أنصار الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي، والتي تعرف الإصلاح السياسي بأنه تلك العملية الضرورية لتأسيس النموذج الجمهوري الديمقراطي العلماني الغربي، أو الملكيات الدستورية . المنظور الثاني: الذي يحمله بعض الإسلاميين المعتدلين Moderate Islamist والذين يمثلون الأقلية الفاعلة في معسكر الحركة الإسلامية، وهؤلاء يرددون بعض مطالب الإصلاح التي ينادي بها بعض الليبراليين الرئيسية مثل: ضرورة تنظيم الإنتخابات الحرة، تشجيع المؤسسات المنتخبة، لكنهم يشددون على ضرورة توافق الإصلاح السياسي مع العادات والأعراف الإسلامية، على الرغم من صعوبة تحديد المقصود بهذا . المنظور الثالث: ويمثله دعاة التحديث، ويدافع عن هذا المنظور بعض النظم العربية والعديد من مؤيديها سواء في القطاع الحكومي أم في القطاع الخاص. ويتضمن جدول أعمال دعاة هذا المنظور بعض الإصلاحات في إتجاه الحكم الجيد مثل: تعزيز سلطة القضاء، تطوير بعض الإجراءات البيروقراطية، محاربة الفساد، توسيع مجال المشاركة السياسية، وخاصة في صفوف النساء والشباب، وزيادة فعالية المجتمع المدني، وتوسيع تعليم حقوق الإنسان «في المدارس والجامعات»، ورفع بعض السيطرة عن وسائل الإعلام، ومن خلال تحليلنا لتلك الإتجاهات المتعددة، وكذا من خلال رصد العديد من الوقائع والأحداث التي تعرفها العديد من مجتمعاتنا العربية، وكذا من خلال مراجعة العديد من مشاريع الإصلاح السياسي التي طرحت في العديد منها، وكما يشير المفكر العربي «السيد ياسين» يمكن ملاحظة نوع من التنازع حول قضية الإصلاح السياسي العربي على المستوى الداخلي على الأقل بين تيارين رئيسين هما: تيار الأنظمة السياسية الحاكمة التي تدعو للتدرج، وعدم الخضوع للضغوط الخارجية، وتيار أو تيارات المعارضة العربية الذي يرفض ذريعة التدرج، ويدعو إلى صفقة شاملة للإصلاح السياسي، لاتتضمن فقط إلغاء قوانين الطوارئ والمحكم الاستثنائية والتشريعات المقيدة للحرية العامة المفروضة في بعض مجتمعاتنا العربية، ولكن تشترط أن تعلن خطة متكاملة للإصلاح فيها مراحل زمنية محددة، والتزامات تنفذ في كل مرحلة، حتى لو كان سبيل الإصلاح السياسي يبدأ بتغيير الدستور القائم، أو وضع دستور في البلاد التي ليس فيها دستور، يحدد العلاقات بين الحكام والمحكومين، ويبين بوضوح وجلاء الحقوق والواجبات، غير أن هذه الصفقة الشاملة التي تدعو لها المعارضة تقتضي في الواقع في غالبية الأحوال تغيير طبيعة النظام وتركيبته، ومن هنا يثور السؤال: هل تقبل النخب السياسية الحاكمة طوعاً وبدون ضغوط خارجية التغيير الجوهري لطبيعة النظام؟ وهل تقبل لجوء أحزاب المعارضة فيها إلى الاستقواء بالخارج في سبيل فرض تلك التغييرات؟ وربما أن هذه النقاط بالذات التي كانت وراء اتساع هوة الخلاف بين الطرفين المتقابلين في مجتمعاتنا العربية في ظل تمسك كل طرفٍ بسلامة رأيه، وهذا يدفعنا إلى القول: بأن تحقيق الإصلاح في المجتمعات العربية، نحو المزيد من الحرية والحقوق، وإقرار الديمقراطية التمثيلية الحقيقية لابد وأن يكون نابعاً من قناعاتٍ محلية تفرزها التجارب السياسية المتراكمة، وتشترك فيها كل القوى السياسية المحلية على اختلاف مشاربها ولاينبغي أن يكون مفروضاً من الخارج لأن الغرب والولاياتالمتحدة بوجهٍ خاص لم يكن جاداً في دعواته إلى الإصلاح السياسي في المجتمع العربي، ولن يكون على استعدادٍ لقبول كافة نتائجه خاصة إن تعارضت مع مصالحه. ألم يسكت الغرب عن وضعية "هشاشة وغياب" الديمقراطية في المجتمع العربي أزماناً طويلة وكأنها شيئا لايعنيه؟ ألم يعق الغرب العديد من تجارب الديمقراطية في المجتمعات العربية لأنها لم تكن توافق تلك المصالح؟ والأهم من كل هذا أن التدخل الأجنبي سيكون سبباً من بين أسباب عديدة قد تقود إلى تجدد العنف الداخلي وتهديد الأمن، وبالتالي تحول الأماني بالتحولات الديمقراطية الحقيقية في المجتمع العربي كما يشير الفريد هاليداي «Halliday» إلى مجرد أوهام أو "سراب" Mirages" ولنا فيما حدث في فلسطين بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية الاخيرة، وفي نموذج العراق الشقيق دليل حي لايحتاج إلى مزيد تعليق؛ حيث رفعت الولاياتالمتحدة شعار "تحقيق الديمقراطية" في بداية حملتها على العراق. وعوضاً عن تحقيق الديمقراطية في ظل دولة آمنة، لم تتحقق الديمقراطية، وأصبح الوضع في العراق ينذر بحربٍ أهلية وطائفية وعرقية، وهكذا ضحت الولاياتالمتحدة بالأمن والديمقراطية والوحدة في دولة العراق الشقيق مثلما ضحت بها "المعارضة العراقية" إلى جانب فقدانها للسيادة والاستقلال الوطني. وغني عن القول: "إن الوحدة الوطنية والديمقراطية واستقلال القرار السياسي الوطني هي ثوابت وطنية لاينبغي التفريط فيها مهما كانت الأسباب والمبررات"، فهل ستنجح الأطراف المتعارضة في مجتمعاتنا في التغلب على عامل عدم الثقة في الطرف الآخر وتدخل في حوار فكري يغلب المصلحة الوطنية على باقي المصالح الضيقة الأخرى أو أن الإصلاح سيبقى رهيناً بتدخل الخارج؟ - أستاذ العلوم السياسية