مهما اعتقدتم أنها لا تبطش بشعبها، وليس لديها زنزانات تعذيب، ولا تجيد أجهزتها اقتحام البيوت منتصف الليل، والمعارضون يشتمونها في صحفهم.. تذكروا دوماً المثل القائل:«لا تأمنوا الدولة ولو كانت رماد»! ليس شجاعة أن تبطش الدولة بشعبها، وتستبد، وتقتل، وتزج في المعتقلات، وتكمم الأفواه فتشيع الرهبة والذعر من أجل انتزاع الطاعة والولاء، إلا أن الشجاعة كلها تكمن في نظام قادر على الإتيان بكل ذلك إلا أنه يتواضع، ويعفو، ويتسامح ويقدس الحرية عندما تجسد الذات الإنسانية للفرد.. في صباح الجمعة أحبطت أجهزة الأمن عمليتين إرهابيتين استهدفتا المنشآت النفطية في مارب وحضرموت، وبعد ساعات من الحادث أعلن رئيس الوزراء توصل أجهزة الدولة إلى معرفة هوية المنفذين.. وفي اليوم التالي كان وزير الداخلية يعلن عن ضبط خلية إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة وكانت تقف وراء العمليتين الإرهابيتين، وتخطط لاستهداف مصالح أخرى في صنعاء.. ألا تعتقدون أن ما أنجزته أجهزة الأمن لهو عمل رائع، ويفوق كل حساباتنا لحجم مهارات الأجهزة الأمنية في التعامل مع قضايا إرهابية كبيرة من هذا النوع!؟ أليس هذا نصراً عظيماً يؤكد قوة الدولة، وحجم التطور الذي قطعته هذه المؤسسات السيادية!؟ هذا الإنجاز الحقيقي يمثل رداً ساحقاً لكل الجاحدين لإنجازات الوطن، ولكل المتقولين بأن البلد لم يشهد أي تطور أو تنمية خلال الأعوام الماضية.. فلنواجههم اليوم بالحقيقة ونسألهم: كيف تفهمون الإنجاز والتطور إذا كان الإرهاب بالأمس قد اغتال ثلاثة رؤساء يمنيين في أقل من عام «الحمدي، والغشمي، وسالمين»، بينما هو اليوم عاجز عن النيل من منشأة نفطية في الصحراء، أو إلحاق الأذى بأي مواطن يمني، وبات في قبضته العدالة!؟ أين هؤلاء الذين يغتالون الزعماء؟ أين الذين كانوا بالأمس يفجرون، ويغتالون نخب الشعب اليمني، والأجانب العاملين في اليمن!؟ لعل السرعة التي فاجأتنا بها أجهزة الدولة في الوصول إلى الشبكة الإرهابية، وضبط أفرادها تحمل بمضمونها رسالتين: الأولى لقوى الإرهاب أينما كانت في العالم لتؤكد لها أن اليمن ليست لقمة سهلة، ولم تعد مرتعاً لأعداء الإنسانية، أو للتطرف، أو للإرهاب.. وأنها ستقطع أي يد آثمة تتربص بها سوءًَ، وتحاول النيل من أمن شعبها واستقرارها.. والرسالة الثانية للداخل لتقول لأولئك المراهنين على العبث، وإشاعة الفوضى، أو الإخلال بتوازنات الجبهة الداخلية بأن عليهم أن لا يغتروا بأنفسهم، ويمتطوا صهوة جواد مغامر في الملعب السياسي لأن الدولة مازالت بعنفوان شبابها، وتجيد الضربة الخاطفة، وهي ليست بالضعف الذي يتخيلونه، وأن عليهم أن «لا يأمنوا الدولة حتى ولو كانت رماد»! البعض يفهم أن عدم تعرض أجهزة الأمن للمظاهرات، أو الاعتصامات التي تتجه احياناً إلى حتى دار رئاسة الجمهورية على أنها حالة خوف أو ضعف.. والبعض الآخر يخيل له أن تصريحاته ذات التهديد والوعيد للدولة تفزع السلطة لذلك لا تجرؤ على اعتقاله، أو محاسبته.. وفريق ثالث يتصور أن قلمه المسموم الذي لا يجيد غير كيل الشتائم واليذاءات لرموز سياسية معينة ، أو هيئات محددة هو الذي يغل ايدي أجهزة الدولة من ردعه والبطش به.. والجميع هنا يتمادون، ويصعدون من مواقفهم ، وممارساتهم، وخطاباتهم شيئاً فشيئاً مدفوعين بالغرور بالنفس، وبالأوهام المعشعشة في رؤوسهم.. من غير أن يعلموا أن ردود فعل الدولة هي قمة الحكمة والشجاعة، وأنها لا تقيس الأمور بموازين القوة والضعف بقدر ما تقيسها وفق موازين الحقوق والواجبات، ثم الواقع والطموحات. هناك دائماً في قيادة الدولة من يعرف أن ممارسة الديمقراطية في بلد بظروف اليمن الاجتماعية والاقتصادية يتطلب كثيراً من الصبر والشفافية، والتجربة حتى يتسنى تأهيل الأفراد والمؤسسات على الممارسات السلمية أي أن هناك تسليماً مسبقاً بنسب الخطأ المحتملة ليس من الفرد فقط، بل من التنظيمات، والمنظمات، وحتى مؤسسات الدولة.. وبالتالي كان هناك تسامح، وعفو، وحوارات، وتسويات وغير ذلك من الخيارات التي من شأنها تشجيع المجتمع على تنمية حرياته، وممارساته الديمقراطية، وتشذيبها حتى تصل إلى نضوج مناسب بفعل تراكم التجارب والخبرات. إن هذا الاستيعاب الواعي لمقتضيات مرحلة التحول الديمقراطي لم يستطع البعض فهمه إطلاقاً، وواصل التلذذ بأوهامه، وبما يستحدثه عنها من خطط، وسياسات، وافكار لا يعطي بها للدولة حق تقديرها وثقلها في الوقت الذي كان ينبغي خوض اللعبة السياسية بنفس اسلوب لعبة الشطرنج التي لا يمكن أن يفوزبها اللاعب ما لم يضع في اعتباراته أن خصمه أذكى منه، وأكثر مهارة وتخطيطاً. ربما تواجه الدولة تحديات صعبة، أو تمر بأزمات حادة، ومشاكل مستعصية في بعض مراحلها، فتبدو منهارة، أو ضعيفة.. لكن الحال لا يدوم لأحد، ولا يستوي في كل الاتجاهات.. كما أنها حين تجرح كرامتها تنتفض على حين غرة، ويستحيل أن تسمح لأحد تجاوز خطوطها الحمراء.. لذلك قال أجدادنا «لا تأمنوا الدولة حتى ولو كانت رماداً»!.