12/11/2006 الانتخابات اليمنية الأخيرة مثلت محطة تاريخية هامة في التحول الديمقراطي والسياسي والاجتماعي في مجتمعنا اليمني، وهذا الموضوع سبق لنا الحديث عنه بتفصيل في مناسبات عديدة سابقاً وعلى الرغم من ان العديد من أبناء الشعب اليمني «بجميع تياراته السياسية والحزبية» اختاروا التصويت للوطن وأمنه واستقراره، واختاروا الانحياز الإيجابي لمااعتبرناه «ثوابت سياسية مجتمعية ووطنية» فإننا قد نكون مثاليين أو على الأقل متفائلين إن اعتبرنا - كما يعتقد الكثير من المحللين السياسيين - بأن الانتخابات الرئاسية والمحلية الأخيرة قد نقلت الولاء السياسي للمواطن اليمني من المستويات الضيقة «حزبية أو قبلية» إلى مستوى الولاء الوطني بعيداً عن الحسابات السياسية الحزبية والقبلية الضيقة. وفي هذه التناولة سنواصل الحديث عن محددات التحديث السياسي في مجتمعنا اليمني، وسنركز على المحدد الثاني أي «القبيلة» فلايمكن لأحد أن يجادل اليوم في أن «البنية القبلية» في المجتمع اليمني مازالت واضحة التأثير في المجال السياسي، ووجودها يمتد ليشمل البناء الاجتماعي للمجتمع بشكل عام والدولة اليمنية باعتبارها «مؤسسة اجتماعية وسياسية حديثة» مازالت خاضعة لتأثيرات القبيلة كبناء وكممارسة، وقد ساهمت الدولة نفسها - خلال بعض الفترات التاريخية - في الإبقاء على قوة القبيلة، كما ساهمت بعض مكونات المجتمع المدني بدورها في استمرارية التأثيرات القبلية، بحكم عدم قدرتها على تشكيل بديل حديث للقبيلة، بل وخضوعها في بعض الأحيان لتأثيراتها. والقبيلة في المجتمع اليمني، سواء في المراحل الماضية أم في المرحلة الراهنة، لعبت أدواراً مؤثرة في المجال السياسي اليمني، وتواجدت في مختلف الأحداث وهو ماجعلها «أي القبيلة» برأي الدكتور «محمد المتوكل» إطاراً اجتماعياً هاماً لعب ولايزال أدواراً هامة في المجالين السياسي والاجتماعي. فما الأسباب والعوامل التي أدت إلى بروز الدور والتأثير الواضح للقبيلة في المجال السياسي في المجتمع اليمني ؟ وهل يمكن الحديث عن استمرار القبيلة في لعب نفس الدور في الظرفية الراهنة ؟ وما التأثيرات المحتملة لهذا التواجد على جهود التحديث السياسي في مجتمعنا اليمني؟ يمكن الإشارة إلى وجود العديد من العوامل التي ساهمت في جعل القبيلة تلعب دوراً ملحوظاً ومؤثراً في المجال السياسي اليمني، بعضها يرجع لظروف وأسباب تاريخية وموضوعية أدت إلى تقوية نفوذ وحضور القبلية على المستوى السياسي بدلاً من إضعافه، فمثلاً : يرجع العديد من الباحثين اليمنيين، والعرب وغيرهم، الحضور القوي للقبيلة في مسرح الأحداث إلى المأزق التاريخي الذي وجدت القوى السياسية اليمنية نفسها فيه، وخاصة في الفترة التي شهد فيها المجتمع اليمني أول محاولة ناجحة للتغيير والتحديث السياسي «أي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر سنة 1962م» ومارافق ذلك من صراعات سياسية داخلية، حيث عمد الطرفان الجمهوريون من جهة، والملكيون «تدعمهم المملكة العربية السعودية» من جهة ثانية، خلال مرحلة الستينيات إلى إمداد ودعم القبائل بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة قصد الحصول على مساندتها لحسم الصراع المحتدم، وعند انتهاء الصراع في بداية السبعينيات احتفظت القبائل بكل الأسلحة التي حصلت عليها، إضافة إلى اكتسابها خبرة جيدة في التعامل مع تلك الأسلحة في المعارك، وبسبب ذلك فقد تزايد تهديد القبيلة للدولة، كما كان للصراع بين شطري اليمن قبل الوحدة أثر لاينكر في هذا الإطار. وعليه، يمكن القول إن العديد من الأحداث التي شهدها المجتمع اليمني، في مراحل ماضية من تاريخه الحديث والمعاصر، أدت إلى بروز القبيلة بشكل لافت للنظر. وقد اتخذ ذلك الحضور صوراً متباينة ومختلفة، فقد كان في بعض الفترات عاملاً من عوامل الحفاظ على الاستقلال وبالتالي الاستقرار، وفي فترات أخرى كان عاملاً مؤججاً للصراع ولعدم الاستقرار. وقد أسهمت السياسات التي نهجتها مختلف «النخب السياسية political Elites» التي تعاقبت على الحكم في المجتمع اليمني - أي تحريم الحزبية والتعددية السياسية وسيادة النظام الشمولي على مستوى الشطرين - في تكريس وبقاء البنية التقليدية والنظام القبلي ورسوخها في المجتمع، بدلاً من ذوبانها في كيان الدولة، وفي بعض الأحيان قدمت القبيلة نفسها كقوة دعم وحماية في مواجهة ملاحظة ومطاردة أجهزة الدولة للعديد من ممثلي التشكيلات والتيارات السياسية التي كانت تعمل في الخفاء نتيجة عدم اعتراف الدولة بشرعيتها وخشيتها من خطورتها في مناطق مختلفة من اليمن. يدفعنا هذا إلى القول : إن القبيلة في المجتمع اليمني تبقى ذلك الفاعل الذي يصعب تجاهل وجوده خاصة عندما يتعلق الأمر بجهود التحديث السياسي وهو مايطرح تساؤلاً على درجة من الأهمية والحساسية، فهل يمكن اعتبار القبيلة محدداً من محددات التحديث السياسي في المجتمع اليمني لايمكن تجاوزه؟ أم أنه يمثل عائقاً أمام جهود التحديث ينبغي تجاوزه ؟ يمكن البحث عن عناصر للإجابة عن هذه الإشكالية من خلال استعراض العديد من الآراء التي عالجت جدلية القبيلة كمعوق/ كمحدد للتحديث السياسي. القبيلة كمعوق/ كمحدد للتحديث السياسي يخلص «بول دريش Paul Dresch» إلى أن وزن القبائل لايزال هاماً : «... في بلد سدت فيه القبيلة، لفترة طويلة عجز الدولة، ويعارض بعض زعماء القبائل فكرة التقدم «أو التحديث السياسي» ذاتها أقل من معارضته تهديد امتيازاته ومواقعه ومصالحه من قبل دولة مركزية عصرية، ويجدر بنا تجنب أي تحليل منسوخ عندما نقارب الظاهرة القبلية، فليست حياة القبائل دائماً متميزة بالتقليدية والمحافظة،.. فضلاً عن أنه يوجد في كل القبائل شباب ذوو مستوى جامعي وأهلية، ومراكز مصالح متأقلمة مع العالم العصري». تطرح الفقرة السابقة بعض جوانب الإشكالية التي يواجهها الباحثون اليمنيون في طريقة معالجتهم لعلاقة القبيلة بالدولة، وبالتالي في علاقتها مع مشروع التحديث السياسي برمته، فالظاهرة القبلية بالنسبة للكثيرين هي تعبير عن الهوية اليمنية، وهي كذلك جزء من عادات البلاد، بينما يصر آخرون على واقع ان التجمعات القبلية قد عوضت، ولفترة طويلة، عن تقصير الدولة في مجالات العدل والأمن والنظام العام، ومن ثم فعلى الدولة نفسها أن ترفع التحدي بتحقيق الانتماء الوطني من خلال قيامها بدورها وبشكل كامل كمنظم للمجتمع، ومعالجة نقاط الضعف في النظام الإداري. وعلى الرغم من بعض المآخذ التي يمكن أن نبديها على الكيفية التي تمت بها معالجة هذه الإشكالية من طرف العديد من الباحثين اليمنيين، فإن ذلك لايمنع من الإشارة إلى العديد من الآراء التي تناولتها قصد التعرف من قرب على حجم التناقض والانفصام الذي يسيطر على العديد منهم بين تبني اطروحات حداثية تعتبر «القبلية أم المشاكل، هي الأصل الكبير، ومنها تتفرع الأصول الصغيرة، «وبين واقع مجتمعي يمني» إطاره العام قبلي، هذا الانفصام الذي يجد تعبيراً عنه في التردد الذي يطبع العديد من الكتابات اليمنية، وهو التردد الذي يدفع العديد من باحثينا إلى الإحجام عن الحسم، مع أو ضد القبيلة كمحدد أو كمعوق لعملية التحديث السياسي. وفي هذا السياق، أي التردد بين اعتبار القبيلة عائقاً أمام عملية التحديثوالتطور.. والديمقراطية واعتبارها محدداً لعملية التحديث السياسي، يعتبر «عبدالباري طاهر» : «أن القبيلة المدججة بالجهل والأمية والجهل المسلح بالقوة العسكرية هي العائق الأكبر أمام حلم التحديث والتمدن والتحضر، فالقبيلة كتشكيلة بدائية مغلقة ومحصورة بحدود جغرافية لاتساعد على سهولة الاندماج الوطني أو تسيير الحداثة والتمدن». ويضيف، نفس الباحث، أن القبيلة مثلت بعد الثورة اليمنية : «البيئة المناسبة للحرب ضد الثورة في الشمال، وعامل تلجيم وكبح فيما بعد السبعينيات ضد أي اتجاه نحو التحديث أو التطور والتجديد، ولاتزال القبيلة هي العقبة الكأداء ضد خلق دولة مؤسساتية، دولة للنظام والقانون، وللتحديث والديمقراطية والاندماج الوطني». لكنه فيما يبدو - وهذه النقطة تبرز، كما سبقت الإشارة، حجم الانفصام والتناقض الذي يقع فيه العديد من الباحثين اليمنيين - لايجد غضاضة أو حرجاً في الإشارة إلى الدور الذي يمكن للقبيلة أن تلعبه في المجال السياسي، وإنما يرفض أن تقوم القبيلة بتوظيف قوتها وسلاحها ونفوذها لاضعاف هيبة الدولة، وإعاقة بناء دولة المؤسسات والنظام والقانون، وخنق هامش الديمقراطية والحريات العامة، أو أن ترفض مبدأ التداول السلمي للسلطة. وهو مايعني أن معارضته لاتنصب على القبيلة كمكون تقليدي قد يقف عائقاً أمام جهود التحديث السياسي، وإنما يعتمد بالخصوص على موقف القبيلة نفسها من قضية التحديث، فهو قد يقبل بوجود دور ما للقبيلة طالما أنها لاتقف في وجه مجهودات التحديث السياسي، وربما مثلت الخبرة التاريخية التي عرفتها تجربة التحديث في المجتمع اليمني الأساس أو المرجعية التي اعتمد عليها في اتخاذه هذا الموقف المتذبذب مع /ضد القبيلة في الوقت نفسه. وعلى العكس من ذلك يحدد الباحث «سعيد ثابت سعيد» موقفه من القبيلة، من زاوية الإقرار بالأمر الواقع، معتبراً أن التحدي المطروح على السلطة السياسية اليمنية يتمثل في كيفية إدماج القبيلة في عملية التحديث، وليس من خلال الإقصاء لهذا المكون الرئىسي من مكونات المجتمع اليمني أو الدخول في صراع معه، ولايمنعه ذلك من اتهام كل من يدعو إلى المجابهة مع القبيلة بإثارة النعرات العصبية، فهو يرى «أن القبيلة في المجتمع اليمني تظل واحدة من أهم المحددات لمسألة بناء الدولة الحديثة وتطورها. كما تبقى حقيقة واقعية لا يمكن التعامل معها من خلال التجاهل أو الدخول في مواجهة معها، والتحدي الحقيقي بالنسبة لمجهود التحديث السياسي في اليمن يكمن في كيفية دمج القبيلة ضمن آليات ومتطلبات التحديث السياسي والاجتماعي، وجعلها جزءاً من المجتمع المدني ان لم يكن الجزء الأساسي منه، حيث أثبتت التجارب الماضية من تاريخ اليمن أن المضي في غير هذا الطريق ليس أكثر من عبث ومضيعة للوقت والجهد، ولإقحام البلاد في معارك وهمية وجانبية.. فالذين ينددون اليوم بالقبيلة من أدعياء الحداثة هم - برأيه - أكثر الأطراف إثارة لصنوف النعرات العصبية الأخرى». تظهر الآراء السابقة حجم التباين الفكري الذي وقع فيه العديد من باحثينا اليمنيين، وهو مايوحي بصعوبة الحسم حول هذه القضية، ويطرح القضية كما لو أنها تتركز في ضرورة الاختيار بين أحد بديلين : إما استمرار مجهودات التحديث السياسي، وبالتالي الدخول في دوامة من الصراع السياسي الدائم و المتجدد بين قوى التقليد وقوى التحديث، وإما القبول بالأمر الواقع، وهو مايفترض -ضمنياً على الأقل - بقاء السمات التقليدية في المجتمع المدني ولكن مع تحقق الاستقرار السياسي. وباعتقادي أن سياسة التحديث السياسي في مجتمعنا اليمني لايمكن ان تنحصر بين هذين الحدين دون سواهما، بل يمكن أن تأخذ أسلوباً يحقق التحديث ولايفرط بالوحدة الوطنية لمختلف القوى المكونة للمجتمع، ويكفل للمجتمع اليمني انجاز مشروعه الحداثي دون التفريط بقيمه ومرتكزات هويته الوطنية. خلاصة القول : ربما يكون الباحث العربي السوري «فيصل جلول » محقاً في قوله : إن «اليمن يعيش اليوم مرحلة انتقالية بين عالم القبيلة القديم والعالم الجديد الاندماجي - الوطني وفق شروط حديثة ومعاصرة بقدر انخراط اليمن في التحديث والعصر، ومع ذلك فإننا نعتقد بأن القبيلة - ومع كل ماقد يقال عن التحولات والتطورات التي عرفتها في الماضي نتيجة التفاعل بينها وبين الدولة، وبسبب المشاركة الواسعة للعديد من ممثليها في شؤون الدولة والحكم، أو التي تعرفها راهناً - تظل تمثل واحداً من أهم العوامل الكابحة لتطور وتحديث المجتمع اليمني، ممايجعل التحديث السياسي في ظل مجتمع تمثل القبيلة فيه أهم النظم الاجتماعية قاصراً عن بلوغ الأهداف المرسوم. وهو مايحتم ضرورة اضعاف الولاءات القبلية التي تعيق تحقيق التحديث السياسي وبناء الدولة اليمنية الحديثة «دولة القانون والمؤسسات». وربما تكون الشروط السياسية في الفترة الحالية مهيأة لتحقيق ذلك، فالدولة اليمنية باتت تتوفر على جيش نظامي قوي، و لم تعد في حاجة إلى التحالف مع القبائل لحماية النظام السياسي وبسط نفوذ الدولة، كما أن اعادة توحيد شطري اليمن ينفي حاجة أحد الشطرين لدعم القبائل في مواجهته للشطر الآخر، كما كان يحدث في الفترات السابقة، وأهم من هذين العاملين جاء الاعتراف بالتعددية السياسية والحزبية لينفي أيضاً الحاجة للقبيلة لقمع الأحزاب السياسية. غير ان اضعاف البناء القبلي أمر لا يتطلب المواجهة، وانما ينبغي ان يتركز في المقام الأول على إحلال الولاء الوطني الواسع للدولة محل الولاء الضيق للقبيلة. وربما يمثل الاقتصاد المدخل الملائم لتحقيق مثل هذا المسعى عبر إعادة توزيع الموارد والثروات على مختلف انحاء البلاد لتغطية النقص في الموارد والثروات الحاصل على المستوى المحلي، هذا النقص الذي كان عاملاً مؤثراً في بقاء الروابط القبلية واستمرارها وفقاً لرأي.. « فضل أبو غانم» والعديد من الباحثين الآخرين.. وهذا سيقودنا في التناولة القادمة إلى الحديث عن «المحدد الاقتصادي» باعتباره مثل في الماضي، ويمثل في الوقت الحاضر نقطة في غاية الأهمية في تحديد مسار التحديث السياسي في مجتمعنا. استاذ العلوم السياسية - جامعة إب