جميعنا يعرفه بتواضعه الجم، وبساطته المتناهية في هيئته وفي معاشه وفي تعاملاته، وبسعة اطلاعه، وغزارة معارفه، وبثراء عطائه الفكري والثقافي والنقدي والتربوي والنقابي والسياسي، لكن بعضنا المهتم فقط يلم بمحطات مسيرته الحياتية الحافلة بمواقف وطنية غيورة مشرفة، وبتجارب إنسانية واجتماعية عديدة لا أخفيكم أني من قراء كتابات الأستاذ/ عبدالباري طاهر، في مختلف الصحف والدوريات المحلية وما يقع بين يدي من كتاباته في الصحف والدوريات العربية، ومن قراء كتبه الفكرية، وأبحاثه ومداخلاته البحثية التاريخية والاجتماعية والأدبية النقدية والسياسية في مختلف الفعاليات والندوات وحلقات النقاش المحلية، وأكبر فيه سعة اطلاعه وغزارة معارفه، مثلما أقدر عالياً عطاءه وتواضعه وبساطة شخصيته، وصدق توجهه وتعاملاته، لكني فوجئت بسيرته. يحدث كثيراً أن يلجأ الصحافيون لاستطلاع رأي الأستاذ عبدالباري طاهر في غير قضية محلية وعربية، وهذا ما حدث معي كثيراً، لكنها المرة الأولى التي طلبت إجراء حوار صحافي مختلف معه، يركز على حياته الشخصية، ميلاده ونشأته وتجاربه المختلفة في الحياة وما علمته من دروس وعظات.. فوجئت بجوانب كثيرة خفية، لا يبوح بها من تلقاء نفسه، بعكس كثيرين لا ينفكون يتحدثون عن أنفسهم ومواقفهم وما يرون فيه بطولات شخصية لا يملون تكرارها بمناسبة ودون مناسبة!!.. لن أخوض هنا في تفاصيل ما باح به الأستاذ/ عبدالباري فالمجال لا يتسع لكني سأكتفي بإشارات سريعة لأبرز محطات حياته، ففي قرية صغيرة بشط وادي «سهام» في تهامة، كان مولده في العام 1941م، لأسرة كبيرة نسبياً تحتكر التعليم الديني والإفتاء، وقسمة التركات، وكتابة البصائر، والتقاضي، وحتى العلاج بالأعشاب، وعقود الزواج، والمعاملات، وخطب الجامع الكبير في قريته. وفي المدرسة الابتدائية اليتيمة بقريته «المراوعة» تلقى تعليمه الأولي التقليدي الديني واللغوي وبين كتاتيب القرية والحديدة وقرى تهامة وزع وقته بين اللعب والقراءة كما يقول، وبعد وفاة والده اعتمد على ما وصل إلى يديه من إرث زهيد لمواصلة الدراسة التقليدية فغادر بعمر 16 عاماً «المراوعة» صوب مدن العلم زبيد وصنعاء وذمار ومكة المكرمة ناقماً على الجهل رافضاً واقع التخلف نهما في اكتساب المعرفة، وعازماً على إعادة إنتاجها ونشرها. عاصر «طاهر» موجة ثورات التحرر الفكرية والعلمية والشعبية في المنطقة والعالم بأسره واجتياحات التيارات السياسية والفكرية المتباينة التي عصفت رياحها باليمن كغيره من الأقطار العربية، وقادت إلى مخاضات الثورة اليمنية حركة 1948م، وحركة 1955م، وصولاً إلى ثورة سبتمبر 1962م ثم أكتوبر 1963م، وكانت البدايات الحقيقية لتشكل وعيه كانت حسبما يذكر مع الآثار الكبيرة للحرب العالمية الثانية، وتكون ا لاتجاهات السياسية والحزبية والصحافية والنقابية. لكن البداية الحقيقية لخوضه معترك الحياة كانت نتاج ميل للأدب الروسي تلستوي، ديستويفسكي، تورجنيف، غوغول.. الخ. كما يقول مضيفاً: فكانت غلبة الاهتمام للنقد الأدبي وللتجربة الشعرية الحديثة والرواية والقصة.. ومنها ولجت إلى محطة الصحافة، فظللت فترة أكتب في النقد الأدبي بأسماء مستعارة وأفادني هذا في اكتشاف رؤية الآخر لما أكتب بدون مجاملة أو قسوة.. مبرراً الكتابة السرية ب «ظروف القمع الشامل والتجريم والتخوين في أنظمة شمولية آنذاك». بيد أن سرية الفكر وتقنية التخفي هذه امتدت اسبابها إلى غايات اجتماعية نبيلة.. يتذكر: بقيت وزميلي الراحل عبدالله السندي، نتناوب على تحرير باب المرأة في مجلة الكلمة، ونكتب مقالات في قضايا المرأة باسم نادية وغيرها من الأسماء النسائية المستعارة لتشجيع النساء على الكتابة والمشاركة في مناقشة وطرح قضايا المرأة، فقد كان الأمر جديداً وكان لابد من مبادرات تكسر تخوف النساء من الإقدام على هكذا خطوة في مجتمع يودع العزلة وبدأ ينفتح على ذاته اولاً. وسرعان ما لمع نجم «طاهر» في ساحة الفكر والصحافة، فأصبح في مطلع السبعينيات عضواً في هيئة تحرير مجلة «الكلمة» ومدير تحرير مجلة «اليمن الجديد» الصادرة عن وزارة الإعلام والثقافة، وعضو هيئة تحرير فرئيس تحرير أقدم المجلات في الجزيرة العربية مجلة «الحكمة» اليمانية الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان من اوائل مؤسسيه عام 1971م كأول اتحادات الأدباء العربية، وأول كيان جماهيري يمني موحد في أوج الصراعات السياسية بين شطري البلاد. مر «طاهر» بفترة ذهبية في العمل الصحافي على الرغم من مخاطره آنذاك فحاز دورة تأهيل في معهد الإعلام بالقاهرة سنة 1976م، وعين مديراً فرئيس تحرير صحيفة «الثورة» خلال عامي 1975 1976م وفي العام نفسه ساهم في تأسيس ما عرف جمعية الصحافيين، واستحق لقب «عميد نقباء الصحافيين اليمنيين» لانتخابه نقيباً في ثلاث دورات شهدت معارك عديدة خاضها بجدارة، في مقدمتها توحيد النقابة في شمال الوطن وجنوبه. يتذكر: بعد مفاوضات طويلة اقتنع الزملاء في الجنوب نهاية 1977م بوحدة التمثيل الخارجي للصحافيين اليمنيين، ثم استطعنا توحيد جمعية ومنظمة الصحافيين في نقابة واحدة عام 1990م، ثم التصدي لقانون الصحافة الذي صاغه الحزب الاشتراكي، وإدخال تعديلات ليست كلية، لكنها كبيرة، وعقب عام 1994م حاولت الحكومة سن قانون جديد للصحافة أسوا، ونجحنا في التصدي لهذا التوجه «معترفاً»: إن المعركة الوحيدة التي أخفقنا فيها هي فشلنا في انجاز الكادر الصحفي. ومن باب الصحافة وآرائه المنادية بالحريات العامة، كان خوض «طاهر» معترك السياسة يقول: «منذ منتصف الستينيات صرت منغمساً في العمل الحزبي السري وأحرر بأسماء مستعارة في صحافة وأدبيات وبيانات الأحزاب المحظورة في بلد تعتبر فيه الحزبية خيانة عظمى.. فشاركت في تأسيس منظمة العمال والفلاحين التي أصبحت حزباً للعمل عام 1979م، ثم حزب الوحدة الشعبية، ثم الحزب الاشتراكي اليمني، وفي ثلاثتها كنت عضو لجنة مركزية ومكتب سياسي. «طاهر» الذي حاز الليسانس في اللغة العربية عام 1984م، وعمل باحثاً بمركز الدراسات والبحوث اليمني وصدر له: «اليمن الإرث وأفق الحرية 1997م» و «اليمن في عيون ناقدة 1998م» و «فضاءات القول 1999م» مازال حتى بعد ال66 في أوج العطاء، عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب، ورئيس تحرير مجلة «الحكمة» ومدير المكتب التنفيذي لمؤسسة العفيف الثقافية وعضو لجنة «الموسوعة اليمنية» الصادرة عنها، وكاتب في عدد من الدوريات اليمنية والعربية. لكن الغريب والمخجل أن عبدالباري طاهر مع هذا كله لم يحز في حياته حسب تأكيده أي جوائز تقدير أو محافل