قد تفرض المراكز الرفيعة في الدولة على أصحابها مسؤوليات تثقل على كاهلهم، وتفرض عليهم نمطاً خاصاً من الحياة، إلا أن المسؤول الناجح هو القادر على التحرر من تبعية المكان، وثقافة المجلس. مازال البعض يتحدث عن القات بوصفه «اجتماعي» حتى يتجلى له ذات يوم أنه «نخبوي» وليس اجتماعياً.. فكبار السياسيين يميلون إلى مجالسة بعضهم، وكذلك يفعل الأدباء، والإعلاميون، والتربويون، والعسكريون والكادحون وغيرهم، وقلما تتجانس عدة نخب في حيز مكاني واحد. لعل إدمان كبار مسؤولي الدولة على دائرة محددة من الأشخاص سواء كان بالقات أم دونه أضفى على حياتهم أطراً ضيقة تتقولب داخلها مختلف الأفكار، والمعارف، والآراء.. ولأن ثقل مسؤولياتهم لا يمنحهم الحرية الكافية للتحرك في نطاق أوسع صار كل مسؤول يرى في الآخرين هم واجهة العالم الذي لا يستطيع بلوغه، أو معايشة فئاته الاجتماعية.. وبالتالي فإن هذا النمط يميت بريق وحيوية التجدد، وتوسيع آفاق الخبرة والمعرفة. إن من الأخطاء التي يرتكبها بعض المسئولين الكبار هو أنهم لم يجربوا يوماً استكشاف القراءات الأخرى لقضية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية معينة من خلال الاحتكاك بمجالس النخب الأخرى.. كأن يحاول أحدهم التعرف على الكيفية التي يفهم بها الأديب، أو الإعلامي أو الاقتصادي تجربة المجالس المحلية، أو حوار الحضارات.. على سبيل المثال.!. لذلك نجد أن النخبة السياسية تدور في نفس الفلك من المعرفة دون تمكن المراقب من الوقوف على تمايز أو أفضلية، حيث ان هناك ما يسميه علماء الاجتماع ب«الإيحاء الاجتماعي» أي تأثر الفرد لا إرادياً بانفعالات الجماعة. أمس عاتبني مسؤول رفيع لأنني لا ارتاد مجلسه وأبدى مشاعر طيبة جداً نحوي، وعندما أخبرته أنني أتفادى مجالس المسؤولين الكبار بدا مندهشاً؛ لكنه بعد حين تفهم الأسباب ووافقني الرأي.. ولم يكن عذري سوى لأنني مصاب ب«لعنة» الصراحة، ولا أجيد إطلاقاً كتمان رأي، أو مجاملة رأي الطرف الآخر باطلاً.. وهذه صفات منبوذة في ظل وجود من يحترف بناء ناطحات سحاب بالكلام فقط.. وفي ظل وجود زميل يجالس هذا المسؤول من العصر حتى ساعة متأخرة من الليل، وفي اليوم التالي يفيق من نومه قبيل الظهر بقليل ثم يتحدث عن منجزاته الوطنية، وإبداعه، ومشاريعه، وولائه للوطن والشعب.. والطامة الكبرى ان الجميع يصدقه من غير تفكير بأي وقت يعمل كل هذا..؟!. إن المسؤول الرفيع في الدولة هو إنسان مثل غيره، ولا يختلف عن سواه إلا بصعوبة المهام المناطة به، وبالتالي فإن احتياجاته تبقى كما هي.. فهو في مجلسه يحتاج إلى الحوار، وإلى سماع آراء الآخرين وتصوراتهم وحتى انتقاداتهم لأن ذلك بمجمله يكون شيئاً من الثقافة والخبرة ويجدد قدرات التفكير ويوسع آفاق التأمل. فلا ينبغي للمسؤول زج نفسه في حبس اختياري يمضي فيه الساعات التي لا يكون فيها داخل وزارته أو إدارته.. فربما يجد في الواجبات المفروضة عليه ذريعة للحالة التي يعيشها بصورة يومية؛ إلا أنه لو تأمل في الأمر جيداً لوجد أنه يعمل كل هذا من أجل مصالح الشعب في نفس الوقت الذي يعزل نفسه عن الشعب.. ولا شك انه لا يستطيع الاحتكاك بكل فئات الشعب لكنه إذا ما اختلط ببعض مثقفيه ونخبه الأكاديمية والاجتماعية سيكون بوسعه بناء رؤاه حول هموم الناس، وآمالهم، وما هو دائر في خلدهم في تلك الفترة. مجالس المسؤولين يجب ان تكون مسؤولة بكل ممارساتها، وان تتنوع بشخوصها، وتتعدد بأطروحاتها، وان تتفادى كثيراً من المنافقين والنمامين، فلا يليق بمسؤول رفيع النزول إلى مستواهم، كما أنهم لا يترددون في نقل كل ما يدور في هذه المجالس إلى الشوارع، والمقايل لجعلها مادة للتسفيه. نصيحة أقدمها بصدق وإخلاص وأمانة أمام الله تعالى لكل المسؤولين في الدولة.. أيها السادة الكرام؛ لا تأمنوا كل من لم ينتقدكم أو يخالفكم رأياً يوماً، فأنتم تعرفون أنكم لستم أنبياء ليعصمكم الله من الخطأ، وأؤكد لكم بحكم خبرتي الوثيقة مع الجميع أن هؤلاء هم أنفسهم من يشتمون في صحف الطرف النقيض لكم، ويبيعون أسرار مجالسكم بأثمان بخسة قد لا تتجاوز تخزينة يوم!.