ليس من همٍ يقهر إرادة الإنسان مثل هموم صناعة السلام.. ذلك ليس لأن العالم يجهل وسائل إرساء دعائم السلام بل لأنه لايجيد استخدام هذه الوسائل على النحو الأمثل الذي يوصله إلى غاياته. السلام ليس فناً وإنما حكمة تصنعها المعرفة والتجارب المتراكمة، ومهارة الربط بين حلقاتها، وخلق معادلات جديدة تكون هي الرهان الحقيقي لإيجاد مناخ السلام.. ومع أن هناك قواسم مشتركة أو مبادىء عامة لصناعة السلام لكن تبقى الخصوصيات الوطنية هي صاحب القرار الأخير في صنع السلام. إن ظروف صنع السلام في الولاياتالمتحدة تختلف في الكثير من خصوصياتها مع تلك التي تتبناها المملكة المتحدة، أو السعودية، أو اليمن .. فالخرائط الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى كل بلد لاتتماثل مع الآخر.. وإذا ما كانت الولاياتالمتحدة تعتبر توجيه جيوشها إلى إحدى جهات العالم لإشعال حرب هو مشروع لترسيخ السلام العالمي فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لليمن التي تعتبر أي عمل مسلح بمثابة تهديد للسلام، وهو الأمر الذي يدفع اليمن لوصف قواتها المسلحة بأنها (دفاعية)!. وضمن الأطر العامة للسلام فإن هناك عناصر كثيرة تتحكم في صنع هذا المناخ، منها الظرف الاقتصادي، والثقافي والنظام السياسي الحاكم ونهجه في إدارة السلطة.. ورغم أن هناك من يقول أن الفقر عامل أساسي في تغييب فرص السلام لكننا نجد في بلد ثري كالمملكة العربية السعودية تساوي معادلات الإرهاب مع اليمن الفقير.. بل ان اليمن كانت أوفر حظاً في السلام .. وحتى لو قارنا كلا البلدين بالولاياتالمتحدة الأغنى من الجميع نجد أن معدلات الجريمة أكثر إرتفاعاً في الولاياتالمتحدة عما هي عليه في اليمن والسعودية. وعلى هذا الأساس تحول البعض للحديث عن العامل الثقافي، مفترضاً أن تدنى وعي بعض الشعوب كان وبالاً على أمنها واستقرارها .. ومع أنه يقترب من الحقيقة بدرجة كبيرة إلاّ أن بروز ظاهرة العنف في بلد كالعراق - يعد الأول على مستوى الشرق الأوسط في تعليم أبنائه، ويخلو من الأمية - ألقى شكوكه حول المسألة الثقافية ومدى إرتباطها بفرص صناعة السلام. إن مثل تلك الرؤى دفعت بفريق ثالث إلى الحديث حول التوازنات المجتمعية التي تسير فيها السياسة، والاقتصاد، والثقافة بخطوط متوازية مع بعضها البعض.. وهو الجدل الذي كان أقرب إلى الحقيقة - فالفقر قد يكون أكثر أمناً عندما يكون قائماً في بيئة سياسية ديمقراطية تكفل له فرصاً عادلة في تراجع معدلاته، كما أنه لن يكون بنفس الخطورة حين تواجهه ثقافة غنية بالقيم الأخلاقية والإنسانية. في اليمن نحن نراهن على الديمقراطية وحكمة القيادة السياسية في تخفيف آثار الفقر والحيلولة دون تحوله إلى ذريعة للإتيان بالعنف والإرهاب.. لكننا مازلنا نواجه صعوبة في موازنة الخط الثقافي مع ذلك المنهج. هناك إجماع لدى المثقفين بأن المشاكل التي نواجهها في اليمن هي ليست مشاكل سياسية، بقدر ماهي أزمات ثقافية تتولد عن عدم وضوح الرؤيا في المسار الثقافي، وعدم مواكبته لتحدياته المرحلية، وبالتالي فإن النهضة السياسية والتنموية التي شهدتها اليمن لم تجد نهضة ثقافية تعمل على تقويم مساراتها الإنسانية وقيمها الأخلاقية.. وهذه الفجوة مثلت انفلات لصمام الأمان الذي يضبط المناخ السلمي للمجتمع. لاشك أننا قد نكون قادرين على تجاوز بعض الأزمات والفتن التي تشتعل من حين لآخر، لكننا لانستطيع أن نقول أن أسباب تلك الفتن قد أزيلت وتلاشت.. وهذا يعني أنها تمتلك قدرة الطفو على ساحة الأحداث مجدداً. وعليه فإن مسئولية الوسط الثقافي ليست فقط نظم الشعر أو كتابة القصة بقدر ماهي النهوض الشامل بوعي الفرد والمجتمع، والانتقال بهم من الحالة القلقة إلى أن تصبح مصدر توازن قيم المجتمع وكبح جماح نزواته المهددة للأمن والسلام.