تعددت وسائل المجتمعات في أساليب غرس الولاء للتكوين المجتمعي، إلاّ أنها كانت جميعاً تلتقي في غاية مشتركة هي حماية أسباب البقاء، والحفاظ على مصالح الجماعة، وضمان مقومات التنامي. تتدرج قيم الولاء الوطني على سلم قيم انتماء تصاعدي، يبدأ بالفرد، الأسرة، القبيلة، الوطن، ثم الوطن الكبير، والأمة الإسلامية.. لكن تطور أساليب الحياة، وتوسع المجتمعات الحضرية أسهم في تفكيك بعض وشائج هذه العلاقة باستحداث علاقات مدنية جديدة قوامها - في الغالب - المصالح المتبادلة، الأمر الذي فرض حاجة شديدة لتبني تدخل معين لغرس هذه القيم الوطنية بعد أن كانت إنسيابية وعفوية أو فطرية. يعتقد البعض أن مسألة تعزيز الولاء الوطني مسئولية جماعية، لكن واقع الحال يقول: إن المسئولية الأعظم تقع على عاتق الحكومات لكي لاتصبح المسألة رهناً للاجتهادات، والتفسيرات المتباينة، وهو قد لايعني بالضرورة إيجاد جهاز حكومي متخصص في أداء هذه الأدوار بقدر إيجاد استراتيجية عامة وواضحة تلتقي عليها قناعات مختلف مكونات المجتمع وقواه الوطنية. في مجتمع كاليمن كانت هناك مشكلة متمثلة في تخلف رؤى بعض القوى الوطنية عن مفهوم الولاء نفسه، حيث إن كثيراً من (الإسلاميين) كانوا - ولازال بعضهم - يعتبر مسألة الوقوف دون حراك أثناء رفع العلم محرمة!! ومن هنا كان صعباً إضفاء قدسية لعلم الدولة كرمز سيادي لكل الوطن، في نفس الوقت الذي كان الإسلاميون عندما يخرجون بمظاهرة احتجاجية ضد أمريكا أو إسرائيل، أو الدنمارك وغيرها يقومون بإحراق علم تلك الدولة أو سحقه بالأحذية للدلالة على نية إنهاء وجودها وسحق كرامتها..! ويمكن القول إن دور الحكومة يبدأ من الصف الأول أساسي - إن لم نقل من رياض الأطفال - من خلال المفردات التي يتم تلقين الطفل بها، والتي ذات دلالات مكانية وشخصية يرتبط من خلالها الطفل بأقرب الموجودات حوله المكونة لبيته أو أسرته، ليتدرج في ذلك إلى حفظ الأناشيد الوطنية والنصوص القرآنية المؤكدة على صلات التراحم والمحبة والتكافل بين أبناء المجتمع. ولاتقف هذه الممارسات عند هذا الحد، أو عند قضية وقفة الإكبار للعلم، بل ينبغي أن تتعدد إلى ممارسات جماعية تعود بالفائدة على الجميع كالعناية بالبيئة المدرسية، أو حملات العمل الشعبي لتنظيف الحارة، وغيرها من الأنشطة التي تعزز ثقة التلميذ وعلاقته بمحيطه الجغرافي والمجتمعي. إن هذا النوع من التنشئة هو الذي يجسد مفهوم الولاء الوطني على أرض الواقع.. وهو الذي سيتنامى ليتحول إلى رغبة في التضحية من أجل الدفاع عن الوطن.. كما سيضفي على الوطن صفة القدسية التي تحرم على الجميع المساس بها- مهما اختلفت وجهات النظر، أو تعددت الولاءات للأحزاب، والمنظمات وغيرها من تكوينات الحراك الاجتماعي والسياسي. عندما نتابع الأفلام الأمريكية نجد أن هوليود أنتجت مئات الأفلام الحربية والبوليسية في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين.. وهي جميعاً تروي بطولات وتضحيات لجنود أمريكيين ضد العدو، وتظهر مشاهد في غاية الرومانسية للكيفية التي يتعامل بها الجندي مع علم الولاياتالمتحدة.. وهي في الحقيقة كانت كلها موجهة لتعزيز الولاء الوطني، وإزالة الآثار النفسية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية. والغريب أن هذا يحدث في بلد متعدد الأجناس والثقافات والأديان، ولايتجاوز التراث الحضاري التاريخي لبلده أكثر من ثلاثة قرون.. فهم يختلفون بكل شيء حتى الانتماء الحزبي إلاَّ قضية الولاء الوطني لايتعرضون لها بأي سوء. في اليمن نجد أن الخلاف السياسي ينتهك أحياناً مفهوم الانتماء الوطني، فيتخذ البعض صفة تشطيرية، أو دعوات لتدخل الخارج، أو حتى إعاقة كل ما من شأنه تعزيز الوحدة الوطنية .. فيما البرامج التلفازية توجه إعلامها لنقد الظواهر السلبية والتمادي في السخرية من الواقع متجاهلة أهمية تعزيز القيم السلوكية النبيلة والاعتزاز بالنفس والوطن لدى المشاهدين. إذن المسألة ليست مجرد شعارات ومحاضرات بقدر ماهي ممارسات يتم تهذيب النفوس عليها، وترسيخها كمفهوم سائد في أعراف المجتمع يتوارثه الجميع من غير تلقين مسبق