ليس من شك في النجاح موطن أو مرتبة عالية لاتطؤها إلا قدم أدمتها الأشواك وآلمها كثرة السير في طريق الطامحين وأصحاب الهمم العالية ، ومع ذلك يبقى التسليم بعلاقة منطقية بين النجاح ومحدداته الموصلة إليه بحيث تكون الأماني والأحلام والدأب والعمل أموراً تسير في طريقٍ يجب أن يكون في نهايتها ذلك الهدف إلا أن الساعي إلى ذلك قد يصل وقد لايصل ، فهو يصل متى ما أحسن العمل واستثمر الأدوات وبذل الجهود أما إذا لم يبذل جهداً يكافئ مايصبوا إليه فإنه حتماً ستقف دون مايريد عقبات تحول بينه وبينه. وهذا يعني أن شروط البلوغ إلى الهدف متعارف عليها ولاتحتاج إلى من يأتي ليثبتها أو يقرها إلا على سبيل التحفيز والعرض وبسط الأدلة حولها لمن يعطيه التكلم منزلة الشاك المتردد أو المنكر لها. لكننا اليوم قد نجد من يحاول بأسلوب ممعنٍ في التشتيت والتجريد والتشظي أن يجعل من الحديث عن النجاح وكيفية صناعته علماً مستقلاً تقام لأجله المعاهد والمراكز المتخصصة بل إننا بدأنا نجد له أدبيات تخصه لها منتجوها وموزعوها وقراؤها ومروّجو افكارها ممن يتحدثون عن البرمجة العصبية واللغوية والتنمية البشرية وغير ذلك. هذا المد الجديد الذي أصطلح على تسميته ب «المتفائل» يريد عن حسن نية وهدف سامٍ نشر ثقافة النجاح بين الشعوب العربية المهزوزة الثقة ، وأن لاشيء مستحيل أمام الإرادة القوية التي لا تزعزعها ظروف ولاتقف أمامها عوائق ، لكنه بالمقابل ومن خلال مظاهره الفكرية يسعى لأن يجعل من النجاح مسألة إكلنيكية بحتة بحيث يصبح المستمعون والمشاهدون والمتلقون جميعهم أمراضاً وغير أسوياء وعلى ذلك فهم بحاجة إلى جلسات برمجة عصبية عن طريقها تتفتح المواهب وتحل العقد بالإضافة إلى شحنات قصصية تروى عن رجال أعمال وشخصيات عالمية صنعت من نفسها رموزاً للنجاح يحتذى بها ، وانها أي هذه الشخصيات لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه إلا لأنها قررت ثم نفذت !! وأنا هنا لا أنكر أن يكون النجاح علماً مستقلاً له قوانينه وشروطه وسننه لكن أن يصبح الحديث عن النجاح حديثاً هستيرياً خيالياً ليس من الواقعية في شيء ويسعى إلى تقليص مسألة (العلّيّة) في الأذهان فهذا أمر من الصعوبة بمكان أن يقبله مثقف ثقافة عصرية ، ذلك أن من يتحدثون باسم النجاح لم ياتوا بشيء جديد وفعّال سوى أنهم تواتت لهم الظروف فتحصلوا على ماكانوا يريدون ثم إنهم بذلوا الجهود في سبيل النجاح ليجعلوا من أنفسهم منظّرين ينظرون لمن يريد أن ينجح في حياته نظرة الطبيب إلى مريض نفسي تتطلب صحته أولاً جلسة من نوع «اغمض عينيك ، تخيل أنك غني ، افتح، اغمض ، وهكذا ..» . والحقيقة أن النجاح في الحياة قضية قد مضت إلى معالجتها كل الحضارات التي قامت على الأرض بما فيها الإسلام الذي نظّر لها أفضل تنظير وجسدها أحسن تجسيد وهذا يقودنا إلى القول أن النجاح في التحليل الأخير بلوغ الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها إنسان أو جماعة أو دولة أو حضارة عن طريق الأخذ بالسنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون وبيّنها في كتابه العزيز والتي تتمثل بالهمة العالية والسعي والصبر والعمل الدؤوب وبذل الجهد والطاقة وتشغيل العقل بالتفكير العلمي السليم لا بالتفكير الخرافي أو الأسطوري فمتى ما أخذ الفرد بهذه السنن يكون قد عرف طريق النجاح ولابد أن يصل اليوم أو غداً سواء كان مسلماً أم كافراً. إذن مسألة كيفية صناعة النجاح مسلّم بها ولامجال لمناقشتها أو رفض بعض بنودها وعلى ذلك ينبغي علينا نحن العرب المشهورين بصناعة الكلام وإهدار الوقت فيه ، أن نكف عن تلك الممارسات الكلامية التي لاطائل منها سوى (خربطة العقول) و(تفريق دومان) ، وتأجيج المشاعر بأحلام اليقظة، إلا إذا كان هناك من معرفة جديدة يفيد منها السامع أو القارئ فهذا أمر حسن كأن يأتي المتكلم بخطوات واضحة ونصائح منطقية تنهض بهمم الشباب وتزيل جو اليأس والإحباط عن نفوسهم. وهنا يتضح أن صناعة النجاح اقرب إلى أن تكون فناً من كونها علماً لأنها صناعة تعتمد على حسن التعاطي مع الأولويات والتفنن في تدبير الأمور عن طريق الفكرة الحية والإجراء المدروس.