كلما تريثنا وبحثنا في خلفيات الأمور،نصل عادة إلى نتائج منطقية،وحلول آمنة،واستنتاجات معقولة.. ولا أظنني مجازفاً لو قلت أن الوقوف على حقيقة القضايا،تبعدها كثيراً عن الديمانموجية ومنطق التعصب الفضفاض.... حضرت مؤخراً لقاءً موضوعياً وجلسة مكاشفة مسؤولة بين قيادة السلطة المحلية ورؤساء النقابات المهنية بمحافظة تعز... تحدث الجميع بمنطق الحرص على توفير أسباب المعيشة الكريم ؟ والحياة المثلى للمواطن. كان الحديث شعاعاً ،وشفافاً إلى الدرجة التي تعتقد فيها صوابية كل طراف في الانتصار لرأيه والتأكيد على حتمية هذا الرأي..والحديث عن معاناة الناس غالباً ما يكون حديثاً عذباً،مليئاً بالمواجع ومكثفاً بالشجون...تارة تأخذك الدهشة فتعتقد أن الاطراف يتحدثون بمنطق الحاكم،ورويداً رويدا كلهم في صف المعارضة،وفي الأخير يظل الناس هم فرس الرهان ،وهم الورقة الرابحة ،والتي يسعى كل فرقاء الحياة السياسية إلى كسبها. ومالفت انتباهي «هو الحوار الملغوم» أي المسبوق بقناعات لايمكن التراجع عنها مهما اقتنعت الأطراف بعدم جدواها...ومثال على ذلك : جاء رؤساء وممثلو النقابات حاملين معهم جملة من المطالب التي تمثل في مجموعها مطالب الناس «كما قيل» والتي سيترتب عليها مواصلة حالة الاستنفار الشعبي والاعتصام الجماهيري في الأسبوع القادم. وللأمانة بأن الطرح كان راقياً وكان رد المحافظ «الحجري» أكثر رقياً وأكثر مسؤولية،وحتى لايظن الناس أن هذا الأسبوع هو أسبوع الانتصار للحجري،وقد مثل حالة ديمقراطية متفردة في نزوله إلى صفوف الناس في اعتصامهم الأول أمام مبنى المحافظة،مؤكداً لهم أن مطالبهم مشروعة ولكنها ليست جديدة فهي هم تنموي تعيشه قيادة السلطة المحلية بتعز،وتعمل على انهاء معاناة الناس، وفق ظروف وإمكانيات الواقع،مع الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من المطالب قد تحقق بما في ذلك احتواء أزمة تصعيد الأسعار وتوفير المواد الغذائية،وإعادة إصلاح شبكة المياه والصرف الصحي بتعز.. أقول : إن حالة الرضى كانت هي السمة الغالبة على حديث أطراف الحوار في اللقاء الأخير،ولكن الحوار الملغوم كان واضحاً للغاية،من خلال تأكيد رؤساء النقابات المهنية ضرورة تنفيذ حالة الاعتصام الجماهيري ،رغم قناعاتهم بأن المحافظ «الحجري» كان صادقاً في تفاعله مع جملة المطالب وتأكيده تبني الدفاع عنها أمام السلطة المركزية،وتنفيذ ما هو ممكن في إطار جهود السلطة المحلية،واقتنع الجميع بما طرح ؛ لكنهم أكدوا حتمية مواصلة دعوة الاعتصام والتجمهر والدعوة لحشد الناس. ولا أدري ما قيمة الحوار،وما جدوى الجلوس على مائدة النقاش،في حين يتسلح أحد الأطراف بقناعاته وبحتمية التأكيد على خياراته،وبعدم العدول قيد أنملة عمَّا بيت وخطط له،وهو ما يترجم مقولة «أولبرشرايم» بسياسة الضرب من تحت الحزام. والتجمهر في رأي المحافظة والسلطة المحلية،حالة إقلاق للرأي العام،وإرهاق للناس،وإرباك للسلطات الأمنية،وإشاعة لمناخ الحشد اللامدروس والتجمع غير المنظم،مما قد يتيح حالة من الفوضى والانفلات الأمني ،وهو مالا يحبذه كل أبناء الشارع اليمني...إلا إذا وجدت قيادات نقابية بمقدورها أن تضمن حالة من السكينة والهدوء والطريقة الراقية في إيصال رسالة الناس إلى السلطات.. قال المحافظ: «إذا كان الغرض من هذا الحشد والدعوة للتجمهر هو طرح جملة من المطالب على المحافظ ممثلاً للسلطة المحلية والدولة،فهأنا بينكم مؤكداً لكم بأن ما تطالبون به هو هم شعبي نسعى بكل جهودنا وإمكاناتنا إلى تحقيقه والمطالبة فيه لدى السلطات العليا،ولا أرى داعياً لمواصلة الدعوة لجمهرة الناس..» والسؤال الذي يكثف نفسه ماذا تريد النقابات؟وماذا تريد السلطة؟السلطة تريد هدوءاً عاماً ،يمكنها من إيجاد الحلول الناجعة والمعالجات العملية والسير في منحى فعلي يضمن للمجتمع تحقيق مطالبه،دون أن تطغى حالة الانفعال والتعبير السلمي إلى الهيجان والتكسير وتأزيم الموقف. والنقابات تطالب بحقوق الأفراد والمجتمع،وهي مطالب مشروعة مع أهمية إبراز دورها النضالي والشعبي في قيادة الجماهير وحشدها،وإن تحققت جميع مطالبها،فإنها بغير الاعتصام والتجمهر ،لم تحقق شيئاً،الحوار الملغوم كارثة جديدة ونسق غريب لحالة تطور الفوضى وإن كانت تحت مسمى الديمقراطية،إلا أنها كما قيل «سيئة والأسوأ منها عدم وجودها».