حين تمر كل صباح و مساء في الطريق ، تطالعك وجوده متعددة ومتباينة ، وجوه ضاحكة مستبشرة ، وجوه كالحة مكتئبة ، وجوه كاذبة ، وجوه صادقة ، وجوه طيبة ، وجوه لئيمة ، وجوه تحمل الأمل ، وجوه تحمل الألم ، وجوه تحمل السخط ، وجوه حزينة ، وجوه ترفع التفاؤل شعاراً ، وجوه ترفع البغض والتشاؤم عنواناً . تتأمل الناس ذهاباً وإياباً وتحدق في وجوههم وهم يتدفقون من الطرقات الرئيسة والفرعية والسيارات والبيوت والحارات والأزقة ، جميعهم مشدودون نحو اللّحاق بعجلة الحياة السريعة مستغرقين وغارقين يدورون في فلك ومدار واحد ، أيامهم تزدحم بالهموم والمشاكل ، بالأحزان والأفراح ، ترى أثر خطوط الانحناء و الانكسار واضحة على وجوههم وظهورهم بسبب متاعب الحياة الشاقة . الأيام تركض وتركض وتزدحم الدنيا بالوجوه ، الكثير منها لا يتغير رغم المعاناة تظل نضرة تبتسم وتشرق بعذوبة صدقهم وبساطتهم وشفافيتهم ، وجوه عارية لا تجيد ارتداء الأقنعة ، نجحوا بتفوق في الإنسانية بالرغم من عبء الحياة وظروفهم القاسية لا تزال لديهم أحلام وطموح وأمانٍ ورؤى بينما غيرهم تجردوا من تلك الإنسانية وكل يوم يبدعون في لعبة الأقنعة . إزاء كل ما تقابله من تلك الوجوه الطاهرة لا تمتلك أن تقدم لهم إلا شيئاً واحداً ، تجده أنت متواضعاً وبسيطاً وقد لا يليق بمقام أولئك البسطاء من عامة الناس ، لكن نظرتهم لذلك الشيء مختلفة تماماً عن نظرتك أنت له ، أن تُقدم الحب لهم وتكتب عنهم وتضع أفكاراً وأيديولوجيات لا تتحدث إلاّ عنهم ذلك يشعرهم بالسعادة وبمدى قيمتهم في هذه الحياة وانشغال الآخرين بهم رغم تمتعهم بالبساطة في كل تفاصيل حياتهم ، فذلك الفقير البسيط لا ينتظر منك إلا الحب وليس أي حب بل حب صادق خالٍ من أي أقنعة ، عارٍ من أية مصالح ، حب الإنسان للإنسان بعيداً عن الأنانية ، فالفقير المسكين يدرك تماماً أن حب الآخر له سيجعله ينقل معاناته بعيداً عن التمصلح ويراها بعين الحقيقة المجردة من أي مطمع ، ولكن من ذا الذي يفكر بالناس البسطاء الزاهدين الطيبين الذين يعيشون ليومهم في الرزق فقط وقوت يومهم بالكاد يكفيهم ، منهم بائعو البسطات وعمال البناء والحمالون وعمال المخابز والأفران وباعة الأسواق والصيادون وخياطو الأحذية والحلاقون وووو هؤلاء _ في وقتنا الحالي _ من تنتهك عواطفهم وطموحاتهم ولا أحد يبالي بهم ، نعلم أن من أجلهم نزلت الديانات السماوية وجاءت الأيديولوجيات تناقش وتحل قضاياهم ، هؤلاء من يتم استخدامهم كأداة ضغط ووسيلة لإرهاب المجتمع ، هؤلاء من تسعى الحكومات لدعم اقتصادها لإسعادهم. ومع تزاحم تلك الوجوه البسيطة وهي تترك بصماتها هنا وهناك وتبقى طيلة اليوم عالقة بالذاكرة الإنسانية يستصعب نسيانها لأن مشاهدها تتكرر يومياً و يتعمد الكثيرون سد آذانهم خشية سماع صرخاتهم ، فيستمر السياسي بالحديث عن السياسة والفنان عن فنه والمثقف عن أقرانه من المثقفين وأحوال الثقافة والشعر والأدب والغنى مشغولاً بغناه وكأنهم ينامون ويستيقظون على الغيوم بعيدين عن الأرض . لا يمكن أن يولد فكر حقيقي دون أن تكون مادته الأولى هموم الفقراء ، ولا درجة يخطوها مجتمع نحو الأمام يتجاهل فيها معاناة الفقراء . فعلاً الفقراء يدخلون الجنة تحسبهم أغنياء من التعفف ، فبعد الحرمان من جنة الدنيا انشغل تفكيرهم بجنة الخلد ، أقصى ما أتمنى ألا يتاجر الآخرون بمعاناتهم ويسترزقون من بيع السموم لهم.