تلجأ الأفكار الكبيرة دوماً إلى الأمثلة والمقاربات التي تساعد على تبسيطها وإيصالها إلى قطاع واسع من الناس،والحال،فإن المتصوفة عرفوا بالاستعارات والإشارات،والبحث عن تقريب المعاني التي يريدون إيصالها من خلال استخدام الرموز،وقد كانت الحيوانات من ضمن هذه الرموز،غير أن حيوانات المتصوفة ليست كتلك التي اتكأ عليها ابن المقفع في ترجمته لكتاب الحكيم الهندي «كليلة ودمنة» ولا هي مشابهة لما ذهب إليه بعض كبار روائيي المدرسة الروسية أمثال «تشيخوف» و«غوغول» اللذين استعانا بالحيوانات أو ببعض عناصر الجسم البشري،فقد كتب تشيخوف قصته بعنوان «كلب الجنرال»محاولا ًاستخدام الكلب كوسيلة للتعبير عن المراتبية الاجتماعية التي تغلغلت في أخلاقيات البشر،واستخدم غوغول «الأنف» كتعبير عن النرجسية المرضية. قلنا إن المتصوفة ليسوا كابن المقفع،ولا مثل غوغول وتشيخوف،ولكنهم اختاروا بعضاً من الكائنات الحية ذات السمات الاستثنائية،فقد انطلق فريد الدين العطار في كتابه«منطق الطير» من هذا الكائن ذي الجسم الرشيق والقدرة على التحليق والرؤية عن بُعد والزهد في الغذاء،فالطيور كما يقول العرب «تغدو خماصاً وتعود ثقالاً» فتكتفي لساعات طويلة،والطيور لاتخلط الطعام على الطعام،بل إن بعضاً منها لايأكل إلا نوعاً واحداً من الطعام،فإذا ما أرغمت على مالا تألفه تموت لتوها والساعة، والطيور تتميّز بالتنوع الكبير في أشكالها وتحليقاتها وآمادها وقدراتها وأحجامها،فمنها الناعم الصغير الواهن،ومنها الذي يقتات على الجيف!،ومنها المفترس العملاق،والطيور تُسافر كثيراً، بل إن بعضاً منها يعيد تدوير دورة حياته عبر الترحل من مكان لآخر،وقد استخدم «فريد الدين العطار»الطير كرمز لتلك الرحلة الافتراضية بحثاً عن الحقيقة،واصفاً مخاطر الطريق وأهواله،وكيف أن تلك الطيور تتنكب مشقة كبيرة في دربها الطويل،فمنها مايجزع ويهلك،ومنها مايصمد حتى يصل إلى الهدف. وعلى ذات المنوال استخدم المتصوف «السهروردي» منطق النمل وهو يتحدث عن ذلك الكائن الصغير ذي الإرادة الحديدية،والمغالبة لأعتى الاحتمالات بما فيها أمواج البحار العاتية، فصور لنا النملة وهي تنظر إلى الأحجام الهائلة قياساً بحجمها الصغير،وتصانع في أمور الأهوال والتقلبات على مافيها من ضآلة وضعف،وكيف أن الحق منحها من أسباب القوة مالايمكن إدراكه بعدسات أبصارنا ومدى عقولنا. هذه الاستعارات الدالة لمنطق النمل والطير سمة خاصة في آداب المتصوفة الرامية إلى ماهو أبعد من ذلك،مما يتسع له المقال ويضيق به الكلام.