إن الإسلام ربى أتباعه منذ اللحظة الأولى على التكافل والتعاون القائم على قيم البر، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) ( المائدة 02)، وفي كل أمر عظيم يدعونا الله تعالى إلى نشدان التقوى والدخول في زمرة المتقين الذين قال الله تعالى فيهم: «انما يتقبل الله من المتقين» «المائدة«72» والمجاهدة الدائمة للوصول إلى مرتبة الاحسان، وما يزال المنهج الإسلامي يربي المسلمين في كل بقاع الأرض وفي كل الازمنة وحتى قيام الساعة- على مبدأ التعاون والتكافل والتكامل والتعاضد والتراحم، مثلما يؤسس في وعيهم وتفكيرهم وسلوكهم محبة الإنسان، واحترام حقوقه، وحماية حرياته، وصون كرامته، وتنميته بما يخدم نفسه ومجتمعه وأمته، وليس ذلك فحسب بل دعا إلى العمل الدائم والمستمر لمساعدة الإنسان على الحياة الكريمة في جانبيها العقدي والمعيشي، ومن ثم القيام بكل جهد مادي أو معنوي تحت مظلة البر به، والتقوى في كل ما يتصل بمعاملته والعلاقة الايجابية والمثمرة معه، حتى يلتقي الجميع في نقاط مشتركة، يقل في محيطها العوز المصحوب بالكراهية والبغضاء، وما يؤول بالفرد والجماعة إلى التنافر والتباغض والتقاطع والتناحر، كما تتلاشى في عمق المجتمع الإسلامي المتراحم الفوارق الطبقية والتمايز اللا إنساني بين البشر، وقد برهن الإسلام على بناء هذا المجتمع الإنساني القائم على التعارف في ظل الاختلاف والتنوع الديني والثقافي والحضاري، وجعل ميزة التفاضل والأسبقية بين الناس جميعاً هي التقوى وليس شيئاً غيرها، قال تعالى:[يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير] «الحجرات:31». ثمة قيم عظيمة تجعل المسلمين في سعي دائم ومستمر لترسيخ وتجذير مبدأ التعايش الآمن المستقر مع شركائهم في المجتمع، مما يجعل واقعهم خالياً من العنصرية الضيقة، ومقصدهم الأوحد نقل الفرد والجماعة إلى الاعتصام بحبل الله المتين، بقناعة الضمير، وصحوة الانتماء، وصفاء العقيدة والاتباع الحسن، ومن ثمة دعم قوة وتماسك المجتمع الإسلامي بما يساعد على إحداث التحولات التنموية في معاشه ووعيه وتفكيره وعلمه ومعرفته وسلوكياته وعمله وإنتاجه وإبداعه، وفق المنهج الإسلامي المستمد من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. بطبيعة الحال فإن التعايش السلمي الآمن والمستقر في المجتمع الإسلامي لن يكون سهلاً إلا إذا تضافرت جهود كل أبناء المجتمع الإسلامي لتنميته والنهوض به، وينفق كل بما يستطيع، وصولاً إلى البر مفتاح كل خير ومعروف، شريطة أن يكون ذلك الإنفاق من أحب الأشياء لدينا وأقربها إلى نفوسنا، لأن إنفاقها عنوان محبتنا واستجابتنا لله عز وجل، قال تعالى:[لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم] «آل عمران: 29»، والإنفاق يكون وفق مشروع منظم ومنسق لا يقبل الفوضى والارتجال، يتحرك في محيط العقيدة الإسلامية التي تحث المسلم على العطاء والبذل الدائم، قال تعالى:[يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ماكسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد] «البقرة: 762»، في ضوء تلك المقاصد الوسطية للشرع الإسلامي يتبلور الاهتمام الكبير بالتنمية الاجتماعية، وجعل مسألة الإنفاق الطوعي في سبيل الله «الوقف»، شراكة اجتماعية مهمة وضرورية، متجددة ومستمرة، غير قابلة للانقطاع أو الضياع والعبث، تأخذ حقها وشكلها الطبيعيين في تنمية الجانبين الإنساني والحضاري داخل المجتمع المسلم، ففي الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». لذلك فقد تنبه المسلمون الأوائل إلى هذا الموضوع الإنساني والاجتماعي الحساس فعملوا من أجل سد الفوارق النفسية والطبقية والمعيشية والمعرفية بين أبنائه، فأوقفوا وحبسوا من أموالهم ما ساعد على حماية الفقراء من ذل الحاجة، واستحداث المساكن وأماكن الإيواء للمعدمين وابن السبيل، وحفر الآبار في القرى وطرق القوافل والحجيج، واستحداث قنوات الري في البلدان الزراعية لمساعدة المزارعين البسطاء في ري أراضيهم واستمراريتهم إلى جوار المزارعين الكبار. وبعض الوقفيات كرست لبناء المدارس والمعاهد والأربطة العلمية، والبعض الآخر تم وقفها وتخصيصها للقيام بمعيشة العلماء والمعلمين وطلاب العلم نظراً لانقطاعهم لتلك المهمة، ولا تدخل بشكل أو بآخر ضمن مصادر دخل الدولة حتى لا يحدث الركون على مردودها، فتذهب في معالجة حاجات المؤسسات الرسمية ومسئوليها بدلاً من بقائها في مصلحة الشرائح الأكثر حاجة داخل المجتمع. كما أوقف بعضهم جزءاً من ماله أو أرضه أو عقاراته في سبيل نشر العلم وزيادة المساحة المعرفية داخل المجتمع الإسلامي بقصد رفع وتيرة تحضره وتنظيمه وتقدمه وتطوره ونهوضه، مما أدى إلى انتشار المدارس والأربطة العلمية المستقلة عن المسجد، أو التابعة له والمتأثرة بحيوية الأوقاف التي وجدت وحبست من أجله، وقد نظمت موارد دعم تلك المساجد والمدارس والاربطة العلمية الملحقة بها أو المستقلة عنها في أوقاف مادية وعينية سخية ومستمرة العطاء حتى يومنا هذا. بشكل مواز لتلك المدارس والأربطة العلمية المستقلة أو التابعة للمساجد بنيت وشيدت مساكن وبيوت الإيواء المخصصة لإقامة الطلاب والمعلمين، وتأمين معيشتهم والقيام على راحتهم، بقصد مساعدتهم على الاستقرار النفسي والمعيشي حتى يزداد التحصيل العلمي، تخرج منها خيرة العلماء والفقهاء واللغويين، وقد حققت مدينة زبيد بفضل الله ثم بفضل الاوقاف التي حبسها أهل الخير في مجتمعنا سبقاً علمياً ومعرفياً شهد به أهل العلم في أرجاء المعمورة. مثل ذلك صنع اليمانيون في مدن أخرى مثل مدينة تعز «الجند سابقاً» وعدن وحضرموت وصنعاء وصعدة، وباقي المدن اليمنية، وازدهرت ثقافة الوقف الإسلامي في اليمن، وتعددت أغراضه ومعالجاته، وتنوعت في الوقت نفسه خدماته ومقاصده الإنسانية وتنميته الحضارية، إذ لم يقف أمر الوقف عند بناء المساجد وحبس المقابر، بل تعدى ذلك إلى جوانب أخرى شكلت أهم الروافد التنموية للمجتمع، لعلنا نستقرئ صفحات مجهولة في تاريخ الوقف الإسلامي باليمن، والذي يعتبر في جانبه التوثيقي من أهم مصادر التاريخ الاجتماعي الإسلامي في اليمن، نحن اليوم بحاجة إلى دفع المسلمين لتمثلها في أوقاف وأحباس عصرية تخدم الواقع الإنساني في مجتمعنا اليمني، وتخفف في الوقت نفسه من معاناة اليمنيين وحاجتهم لمعونات الغرب التي تتبع بالاستغلال والهيمنة والتدخلات والإملاءات القاتلة للعقيدة والشريعة والروح والهوية في كل قطر من أقطارنا الإسلامية.