ثمة من يقول إن على العراق إيجاد طريق «العودة إلى الأمة» وثمة فريق آخر آثر دعوة الأمة للعودة إلى العراق ، غير أن الجدل الذي يثيره الفريقان بانفعال يكاد ينسيهما فحوى الإجماع على «عودة العراق»!.. يبدو أن بعض النخب السياسية و الثقافية العربية التي تخوض غمار هذا اللون من الجدل مازالت تبعثر افكارها إما خارج سياق المنطق ، أو بمنأى عن الادراك الحسي للأحداث ، وإني لأتساءل بدهشة: من قال إن الأمة غائبة عن ساحة العراق ، ومن قال إن العراق يبحث عن ذاته خارج انتمائه للأمة وبتجرد عن هويته القومية!؟ إن الحقيقة التي ينبغي لصناع السياسة وقادة الرأي كتابتها للتاريخ هي أن الأمة بعد احتلال العراق جددت حضورها في ساحته ، ولكن ليس بوجدانها وضميرها الإنساني ، وإنما بمليشيات «المجاهدين» الذين كانوا يستخدمون المناشير الكهربائية في فصل رؤوس العراقيين ،والذين اغرقوا مدن العراق بالسيارات المفخخة ، وجسدوا ابشع النماذج الحية للارهاب. فكل بلد عربي كان له من يمثله من الفصائل الإرهابية وليست البعثات الدبلوماسية .. ورغم كل المجازر التي تناقلت مشاهدها الدامية مختلف الفضائيات ، ظلت نخب الرأي تجتر خطاب الفتنة وتشرع لمزيد من القتل والتخريب دونما تمييز بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال! إن إشكالية الموقف العربي تجاه الاحتلال هو أنه كان يفتقر للحكمة وبعد النظر بحيث إنه اسهم وبشكل مباشر في إضعاف خطوط مقاومة الاحتلال من خلال إغراقه العراق بالفصائل «الجهادية» - كما يسميها - التي احدثت امرين خطيرين أولهما تشويه صورة المقاومة وتحويلها إلى كيانات ارهابية مفرغة من أي تعاطف شعبي من هول المجازر التي ترتكب باسمها ، وثانيهما نقل المواجهة من ساحة المحتل إلى ساحة الفتنة الداخلية ، نظراً لكون هذه التنظيمات «الجهادية» قائمة على أسس دينية متطرفة وهو الأمر الذي شجع ايضاً بعض التنظيمات الايرانية المتطرفة على دخول العراق وتصفية حساباتها المذهبية على أرضه. اعتقد أن الأمة ادركت في الفترة الأخيرة خطورة حضورها السلبي في العراق على بلدانها ، حيث إن مرحلة الانهيار الأمني واستشراء نفوذ القاعدة ،والتنظيمات الإرهابية الأخرى اسهم في تنمية السلوك الاجرامي لدى «المجاهدين العرب» وتطوير خبراتهم في إدارة العمليات الارهابية.. ومن جهة أخرى فإن كل ماشهده العراق من تطورات تحول إلى تجارب للشارع العربي الذي بدأ يحاكي ممارساتها سلباً وإيجاباً.. وبالتالي كان الضغط الأمني على التنظيمات الإرهابية كفيلاً بإجبارها على العودة إلى بلدانها حاملة كل الفنون والخبرات التي اكتسبتها خلال فترة تواجدها في العراق. إن الجدل الذي يجب أن نديره اليوم في منطقتنا العربية هو ليس كيف يعود العراق إلى الأمة أو تعود الأمة إلى العراق ، ولكن كيف نستوعب كأمة الدرس ونستلهم العبرة ، ونعاود رسم سياسات دولنا على اساس أن أي انهيار أمني في بلد عربي سيجر خلفه سلسلة انهيارات مماثلة في بقية البلدان وسيخضعها لارتهانات خارجية ، وضغوط ، ومساومات وابتزاز سياسي لايرغب به أحد. ربما علينا أيضاً أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة ، وتترفع حكوماتنا عن اقتناص فرص تصفية حساباتها التاريخية ، والثأر لتجاربها الماضية، أو البقاء رهن الماضي ، طالما وأن الزمن يستحيل العودة للوراء. فالعالم من حولنا يتحرك بدوران سريع ومذهل راسماً ابعاد واقع متغير ، وجديد بأبجدياته ، وعلاقاته ، ومصالحه ، وتوازناته ، ولن يرحم من يتخلف عن ركبه ، ومن يفتقر لبعد النظر ، ومن يصر على البقاء اسيراً لثقافة ضيقة ، وولاءات شخصية ، وممارسات أنانية ومغرورة لايتوانى اصحابها عن إبادة شعب ، وإحراق وطن من أجل مطامع فئوية أو حزبية محدودة.