واحدة من اشكاليات العالم العربي انصهار وعي الصفوة في النظام السياسي بالثقافة الشعبية ،وتأثرها بكل مايشوبها من لوث ، أو تعبئة مضللة ، أو قصر نظر ، أو انجراف عاطفي ، رغم القرب الوثيق لتلك الصفوة من الحقيقة وأسرارها ، ورغم امتلاكها الامكانيات السياسية والمادية لتصويب الوعي الشعبي ، وتوجيهه بالشكل السليم..! في أعقاب احداث الحادي عشر من سبتمبر وما ترتب عنها من تداعيات انفعالية تحت عنوان «مكافحة الإرهاب» لم يكن في أروقة دوائر صنع السياسة العربية جدل أكبر من البحث عن تعريف واضح للإرهاب ، ثم تمييزه عن «المقاومة» حتى أصبح هذا الموضوع هو الشغل الشاغل للحكومات العربية وإعلامها ، ومراكز بحوثها .. إلا أنه وبعد الغزو الامريكي للعراق لم يعد أحد يفكر مجرد تفكير بالبحث عن تعريف للإرهاب ، أو تمييزه عن المقاومة..! طوال مايزيد عن ثلاثة أعوام ونصف من عمر الاحتلال الامريكي للعراق تحولت دول جوار العراق وعواصم عربية أخرى إلى أكبر داعم للتنظيمات «الجهادية» وفتحت حدودها ، وخزائنها ، ومعسكراتها واحياناً قصورها الرئاسية لخدمة شتى ألوان التنظيمات المقنعة بأغلفة «إسلامية» حتى تحول العراق إلى أكبر مستنقعات الإرهاب ، وتجاوز عدد من يسمون أنفسهم «مجاهدين» أكثر من أربعين ألف شخص من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية .. ظلوا يفتكون بكل شبر من أرض العراق ، وملأوا الشوارع بالجثث والرؤوس المفصولة ، والأشلاء المقطعة. كان الزعماء العرب والصفوة في أنظمتهم يمضون أمسياتهم أمام الفضائيات مندهشين من قوافل القتلى، وارتال السيارات المفخخة التي يتم تفجيرها في الأسواق ، وأماكن التجمعات ، وحتى في مجالس العزاء وكل واحدة منها تودي بأرواح العشرات.. ورغم مايرونه بأعينهم ، ويسمعونه بآذانهم فإنهم في صباح اليوم التالي ينسون كل ذلك ويتحدثون عن «المقاومة» و«المجاهدين» الذاهبين لتحرير العراق من الامريكان..! لقد كان واضحاً أن لكل نظام حساباته الخاصة من تحويل العراق إلى «كبش فداء الأمة» الذي يدفع شعبه الثمن بالنيابة عن كل أبناء الأمة..لكن لم يخطر في بال أحد أن هذه التنظيمات «الجهادية» كانت تعمل لحساب قوى الاحتلال وبتوجيهاتها لقتل إرادة المقاومة العراقية وتلويث اسمها بالإرهاب، لكن كان أول انتصارات العراقيين على المحتل بدحر «قاعدته الإرهابية» ودفعها إلى الفرار ، والعودة ادراجها.. وبالتالي تكرار مأساة العائدين من افغانستان التي لم تتعلم منها حكوماتنا شيئاً.. للأسف الشديد إن الحكومات العربية بعد احتلال العراق فقدت شهية إثارة الجدل حول تعريف الإرهاب ، أو السؤال عما يميزه عن المقاومة .. وظلت إلى يومنا هذا تعتبر هذه الجماعات طالما هي تنفذ عملياتها في العراق أنها «مقاومة» لكنها حال عودتها إلى أوطانها تسمى «جماعات إرهابية» وهو الأمر الذي سيعني كلما استقر العراق زاد خراب العرب ، جراء عودة الإرهابيين إلى بلدانهم بعد حقبة طويلة من الممارسة الميدانية المكثفة لأبشع جرائم القتل والتخريب التي حولتهم إلى خبراء محترفين شتى فنون الإرهاب.. لست بصدد تأليب المواجع ، لكن مايزيد قول اليوم هو أن على جميع الحكومات قطع كل أنواع الدعومات والتسهيلات التي تقدمها للتنظيمات الجهادية تحت شعار «مقاومة الاحتلال» لأنها عبارة عن تنظيمات إرهابية تخدع الأنظمة العربية ببعض الأفلام المدبلجة التي يجمعها هواة.. كما أن على هذه الحكومات التعاون فيما بينها البين بمواجهة الإرهاب ، فإن البلاء الذي سيصيب أي بلد عربي هو بلاشك قادم إلى غيره عاجلاً أم آجلاً.. فليكن ماحدث مع العراق آخر دروسنا العربية ،ولتوصد جميع البلدان الأبواب التي دأبت على ادخال الإرهابيين منها إلى العراق ، لأنهم سيعودون منها أيضاً لتنفيذ جرائم أكثر بشاعة.