بدراسة فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح، نجد أن الرئيس حاول جاهداً من خلال العمل الجاد على تجاوز سلبيات الواقع وفساده، لصالح إعادة صياغته وفق المبادئ والقيم الإيجابية للمشروع الوطني، بهدف بناء مستقبل آمن، وعادة ما كانت قراراته تتسم بالحكمة والتروي، وكان سلوكه السياسي يحمل همّ تعظيم المصلحة الوطنية. فالرئيس كان ومازال أكثر نضجاً وإدراكا وذكاء وفهما وتعاملاً مع البيئة المحيطة،في الداخل والخارج، مقارنة بغيره من الزعماء، وسلوكه مؤسس على عقلانية واقعية، تحكمها رؤية مثالية مستقاة من واقع أهل اليمن، كما حددها المشروع السياسي الذي عبر عنه ورسم معالمه بوضوح المشروع الوطني خلاصة تجربة الحركة الوطنية اليمنية. وتجربته الطويلة في الحكم مكّنته من التواصل مع كافة القوى الفاعلة المجتمعية، مما جعله قادراً بامتياز على استيعاب الواقع اليمني وحاجاته، واستطاع أن يخلق أجواء ملائمة لقبول الأفكار الجديدة والحديثة الخادمة لمصالح الناس. وبفعل قدراته الشخصية، التي منحته صفة القائد القوي، القادر على التأثير والإقناع، وصناعة الحدث، تمكن الرئيس بجدارة تامة، وثقة ناضجة، من توظيف حركته، وقوة الدولة والمجتمع في الاتجاهات الخادمة للوطن ومصالح أبنائه، وكان دائما مثالا للقائد الوطني الذي لا همّ له إلا خدمة الناس، ومتابعة مصالحهم، وأياً كانت نتائج القرارات والسياسات فإن الأخطاء مسألة طبيعية لأي عمل فالبيئة المحيطة من قوى موضوعية تلعب دوراً فاعلاً في تحديد النتائج. والرئيس لم يتفرد بالقرار في يومٍ ما في تاريخه السياسي، بل اعتمد على التشاور والتواصل والاتصال بكل القوى الفاعلة في المجتمع والدولة، وعندما يُتخذ القرار يبدأ الرئيس في دفع الحركة باتجاه تحويل السياسات إلى واقع عملي، مع ملاحظة أن الرئيس واقعي في تفكيره بتأكيده الدائم أن اتخاذ القرار مسئولية جماعية، والتنفيذ أيضا مسئولية جماعية، فتحقيق الهدف وإن كان للقائد السياسي دورٌ فاعلُ في المبادرة والمتابعة، إلا أن النجاح التام للهدف وتحققه لا يمكن أن يكون إلا بتعاون الجميع، فالكل مسئول سواء كان في الدولة أو المجتمع، وبالتكامل والإخلاص والصدق والفاعلية يصبح الإنجاز هو المحصلة النهائية. وتلعب النخبة السياسية المؤيدة والداعمة، الدور الفاعل والقوي في صنع السياسة، وتنفيذها وتقويمها، فالدولة لا يمكنها أن تتحرك إلا بالكادر المؤهل، القادر على التعامل مع الواقع بفهمه واستيعاب حاجاته، ومعالجة مشاكله، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل تغليب مصالح الوطن والناس على المصالح الذاتية، فالمسئولية الأخلاقية لدى النخبة، تظل من أقوى الدوافع والروافع التي تسهم في نجاح السياسات وفاعليتها. والمتابع للشأن السياسي اليمني، يلاحظ أن القائد منذ بداية توليه السلطة، وهو يعتمد على رجال أقوياء في الكفاءة والأمانة وحب الوطن، مثلوا الدرع الواقي للمشروع الوطني، وأسهموا في تحقيق الكثير من المنجزات، وعملوا على خدمة الوطن بجد وتفانٍ. وكانت علاقتهم بالقائد تقوم على الالتزام بالقيم والمبادئ الوطنية، والحب والوفاء للقائد، وقد مثّل لهم رمز الفداء والشجاعة، والقوة والإخلاص والصدق في خدمة الوطن، وفيه تجسدت معاني القيم التي حملها المشروع الوطني. إلا أن الملاحظ أن بعض أعضاء النخبة، على الرغم أن اختيارهم يتم وفق معايير الكفاءة والتمتع بصفات قيادية، وقيم خلقية ووطنية، إلا أن تلك القيادات تعمل بجد وإخلاص في بداية الأمر، ولكنها مع الوقت تصاب بالخمول، ويقل إنتاجها، وتنخرط في العمل الحكومي، ولكنها بسرعة تصاب بالجمود، وتعجز عن تطوير نفسها معرفيا في مجالات تخصصها، وتصبح غير قادرة على خلق معالم إبداعية لتطوير العمل وزيادة الإنتاج، بما يسهم في خدمة الناس وتحقيق مصالحهم. وأصبح بعض أعضاء النخبة روتينياً في العمل، وتقليدياً في تعامله مع الأهداف، وهنا يصبح الإبداع شبه مفقود، وهذا يثير قلق القائد لأن هكذا تصرف لا يساعد القائد على الوصول بالطموحات إلى آفاق جديدة، بل يجعله يتحمل الكثير من الأعباء ومتابعة الكثير من التفاصيل حتى يتأكد أن الأمور تسير على الوجه المطلوب، للحصول على النتائج المرجوة، ومتابعة القائد فعّلت الكثير من المنجزات، ولكنها جعلت جزءاً من النخبة يعتمد على القائد في حل المشاكل. وبعض الأشخاص رغم ما كانوا يتمتعون به من قدرات عالية على المستوى المعرفي والعملي، لكنهم بعد أن حققوا النجاح في الوصول إلى السلطة، ونتيجة الانخراط في سلك الدولة، والرغبة في حماية المصالح، أصبح الشخص منهم يتحرك بطريقة مخادعة وخائفة وقلقة، وولد لنفسه قناعة أن التبعية الكاملة بمعناها السلبي هي الأسلوب الأفضل لتحقيق نجاحه الشخصي، وهذا الأسلوب اضعفه وأفقده القدرة على الإبداع وأفقده استقلاليته ، وأصبح غير قادر على أن يلعب دوراً معرفياً قوياًَ، فالمعرفة هي التي جعلت القائد يمنحه شرعية الحضور، وذلك أن القدرة على الإبداع والتقويم تمنحه منطقاً قوياً في دفاعه عن القائد ومشروعه السياسي المعبر عن طموحات الناس، والمعرفة تسهم بتطوير المشروع الوطني وتخدم الناس وتحولات الواقع. وقد يفسر البعض ذلك أن قوة القائد مقارنة بالنخبة عمَّق اعتمادها عليه، وهذا وإن كان فيه الكثير من الإيجابية، خصوصاً عندما يكون القائد وطنياً وله مشروع واضح كالرئيس إلا أن اعتمادها الدائم على القائد يخلق مشاكل كثيرة لا حصر لها، أقلها الاتكالية والخمول داخل النخبة السياسية، وجعل المعارضة تركز على القائد والفاعلين داخل النخبة الداعمة، ومحاولة تدميرهم بالتشويه والتشكيك، ويصبح القائد الهدف الجوهري لكل أعداء النخبة وأعداء المشروع الوطني. وفي تصوري أن الضعف المعرفي جعل بعض أعضاء النخبة عالة على القائد، بل وفي أحايين كثيرة معيقين لحركته، وهذا ربما يفسر الاعتراضات التي تظهر في خطابات القائد بين الحين والآخر للسلوكيات الخاطئة للبعض، وعجزهم الواضح في الاستجابة لتلبية حاجات الناس وخدمتهم. بل يمكن القول إن جزءاً من النخبة السياسية الحاكمة أصبح يمثل حجر عثرة أمام القائد وهم من يصنعون الأزمات ويدخلون البلاد في الأنفاق المظلمة وهذا الجزء لا يؤمن إلا بمصالحه الأنانية ومكانته الاجتماعية والسياسية والعسكرية ويوظف وجوده السلطوي لتضخيم مصالحه، بل ان جزءاً من هؤلاء على علاقة سرية وعلنية ببعض القوى الذين يتم توظيفهم في تدمير صورة النخبة المقربة من الرئيس والتي تحمل الهم الوطني ليل نهار وتعمل جاهدة على إقناع الرئيس بممارسة الضغوط على المخربين للمشروع الوطني من داخل منظومة الحكم. والأخطر من القوى الفاسدة أن بعض النخب الحديثة قد أصابها التكلس والموت ورغم خطابها المجلجل إلا أنها فقدت فاعليتها رغم الصلاحيات الممنوحة لها وهذا الجزء من النخبة يعمل بروح مهزومة أمام المفسدين ومشكلة هذه النخبة الحديثة أنها خاملة ومهزومة نفسيا وتعمل وفق خطوط تقليدية، ولم تتفاعل بحيث تصبح قادرة على خلق مساقات إبداعية متناغمة مع أطروحات القائد، ونقلها إلى آفاق التحقق والتموضع على الواقع، لأنها الوحيدة التي تملك الحق في الفعل الشرعي داخل المفاصل المختلفة لأجهزة الدولة، ولديها قوة فاعلة في التأثير على المجتمع، بحكم تعبيرها عن فئاته وقدرتها على التغلغل فيه. وبدلاً من ذلك وجدت نفسها لحماية مواقعها راضخة لكل مفسد، بل أن البعض رغم قوته ووطنيته إلا أنه فضّل الرضوخ لتهديدات القوى الفاسدة والتي قد تستخدم كما يؤكد بعضهم القوة الإجرامية لتصفية من يقف أمامها وهذا ربما ما جعل الجميع يرفع شارت الاستسلام على طول الخط. والمشكلة الجوهرية أن كل أعضاء النخبة مرتبط بالقائد ومعتمد عليه، وهذه الآية المعكوسة في اعتماد النخبة على القائد، أضعفت النخبة وأضرت بالقائد وبالمشروع السياسي، أما الوجه السيئ في الأمر أن القوى الفاسدة اخترقت النظام، واحتمت بآلياته وأدواته الشرعية، وشوهت سمعة القائد والنخبة الداعمة. وشكل هجوم القوى المعارضة وتركيزهم على شرعية الرئيس وعلى تاريخه ومستقبله مدخلاً للقوى المخربة في النظام لترسيخ قوتها وتمكنها. ويمكن القول إنه رغم إعلانات الرئيس ومحاربته للفساد وأهله، إلا أن النخبة الداعمة بدورها ظلت ساكتة وخاملة وعاجزة عن الاستجابة لهذا النداء، على المستوى المعرفي والعملي، وهذا ربما يعمق من ضعفها لصالح فئات جديدة متحمسة وعازمة على الاستجابة للقائد، ولعل القوى الشابة الجديدة الباحثة عن دور ستشكل قوة معرفية وسياسية قادرة على دعم وتفعيل الدور المعرفي للنخبة الداعمة للرئيس. والشرط الوحيد لنجاح هذه الفئة هو التخلص من القوى التقليدية وقسرها بالقوة على الالتزام بالمشروع الوطني، ويمثل دعم الرئيس وحمايته من تهورهم مدخلاً أساسياً حتى يتمكن من الضغط عليهم ووقفهم عند حدهم وظهره محمي على المستوى الشعبي، وإيصال القوى الفاسدة والتقليدية إلى قناعة جازمة أن أي مس بالقائد يمثل انتحاراً جماعياً لكل القوى التقليدية والفاسدة . وهذه القوى الجديدة في منظومة الحكم وخارجه في تصوري تملك رؤية منفتحة على التيارات، وهي في الغالب تركز على القضايا الأساسية التي تهم الناس، وبرؤية مستوعبة للعصر وتغيراته، ويتوقع لها ان تشكل قوة وطنية قادرة على التواؤم مع طموحات القائد ودعم سياساته ، والمرحلة القادمة مرحلة حاسمة إذا لم يتمكن المشروع الوطني من تحقيق ذاته فإن الجميع خاسر والمستفيد هم المفسدون وحدهم . وهذه القوى الجديدة على قناعة أن دعم الرئيس ضرورة تاريخية، وسلوك وطني خالص، لا هدف له إلا حماية اليمن من المخاطر والمغامرات الحالمة لبعض الأطراف السياسية في الحكم والمعارضة، التي لن تهدد مستقبلنا بل ربما تدمر ما تم إنجازه. ويمكن أن نفهم دور النخبة السياسية في تعاملها مع القائد من خلال بعض التجليات الفكرية والعملية التي يضعها القائد أمام النخبة في الحكم والمعارضة، ليتم تناولها ودراستها وإدارة النقاش والحوار حولها ووضع التساؤلات، ومحاولة الإجابة عليها والتواصل والاتصال بالناس، وأيضا محاورة القائد، كل ذلك بهدف إثراء تلك التجليات فيما يخدم الناس ويحقق مصالحهم، وهذا يمثل أرقى سلوك في الممارسة السياسية. الغريب في الأمر أن النخبة تتعامل مع المسألة بطريقة غريبة، إما بالصمت المطبق وانتظار القائد ليحسم الأمر، أو بممارسة ضجيج يهدم ولا يبني، والبعض ينظر للمسألة من زاوية أنانية ويصبح الحُكم على الرؤى المطروحة محدداً بالحماية أو الرغبة بالزيادة أو الحصول على المصالح. وهذا السلوك السلبي سهل للفساد وللقوى التقليدية المتعاملة مع الدولة كغنيمة أن تعمل بفاعلية وتشل أي حلم أو طموح في بناء اليمن الجديد.