إن مايثير الحنق والغيظ حقاً أن الفقر لم ولن يكون رجلاً على الإطلاق كي نقتله ونرتاح ويرتاح معنا السواد الأعظم من فقراء العالم إنهاءً لعذاباتهم المستمرة. علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عندما قال مقولته الشهيرة «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» كان يعلم بأن الفقر لن يظهر للناس على هيئة رجل فأطلق هذه العبارة من باب التمني لا أكثر لكنه لم يتحدث عن ذلك من برج عاجي كما يفعل الكثير من الفلاسفة والمفكرين في عصرنا الحالي بحثاً عن الشهرة والنجومية فهو لم يكن في بحبوحة من العيش، ولم يحاول أن يستغل مكانته بصفته زوج بنت الرسول «صلى الله عليه وسلم» المبعوث للناس كافة أو بصفته ابن عمه، قد لايعلم الكثير منا بأن علي بن أبي طالب هذا الرجل التاريخي كان يعد من أفقر الصحابة..أيام بلياليها كانت تمر عليه هو وزوجه فاطمة وهما لا يملكان في بيتهما كسرة خبز واحدة، وكان الرسول «صلى الله عليه وسلم» يعلم بذلك فكان عند زيارته لهما ينصحهما بالإكثار من الدعاء والذكر قبل أن يخلدا إلى النوم كي ينسيا جوعهما ولم يمنحهما قراراً استثنائياً بصرف راتب شهري أو علاوات أو مكافآت أو بدل غلاء مكافأة له على ماقدم من أدوار بطولية والتي من أبرزها تضحيته بنفسه عندما نام في فراش النبي «صلى الله عليه وسلم » في ليلة اقتحام كفار قريش لبيته «صلى الله عليه وسلم» من أجل قتله. علي بن أبي طالب جرب الفقر وعايش الجوع حتى لازمه بقية حياته لهذا كان رضى الله عنه أكثر إحساساً بالفقراء والمحتاجين. في اليوم الاستثنائي الذي مر به وهو يمتلك ثلاثة أرغفة من الخبز وقد تهيأ هو وأفراد أسرته لتناول طعام العشاء وصلت درجة الإيثار لديه إلى حد الاستغناء عن تلك الأرغفة الثلاثة لصالح أولئكم الذين تتابعوا على طرق الباب - المسكين ثم اليتيم ثم الأسير - والقصة موثقة في القرآن الكريم .. لقد رجحت قوة الإيمان لديه على قوة شهوة البطن. صحيح أن الفقر ليس رجلاً لكن الذي لاشك فيه أن الرجل هو المتسبب في الفقر..فالثروات المكدسة بمئات المليارات يتحكم بها بضعة أفراد لايزيد عددهم على أصابع اليدين فهم المحتكرون لقوت البشرية.. هؤلاء البضعة نفر هم في الأساس رجال ولكن بصورة شياطين متوحشين لأنهم جمعوا ثرواتهم من عرق ودماء مئات الملايين من الناس الغلابى حتى أوصلوهم إلى حافة الفقر والعوز فانتشرت المجاعات في أماكن عدة من العالم تتركز معظمها في عالمنا الإسلامي لأن العدالة في توزيع الثروات غائبة تماماً في ظل سيطرة قانون الرأسمالية ونظام العولمة والسوق المفتوح على مصراعيه طبعاً من طرف واحد لصالح الدول الكبرى، فالمسير لكل ذلك هم أمراء الشركات العابرة للقارات والذين يعدون الحكام الفعليين لدول العالم فهم من يرسمون الخطط والبرامج الاقتصادية لكل دولة على حده باتجاه المزيد من الإفقار والتجويع للشعوب التي لاتمتلك أي حيلة أو وسيلة للدفاع عن نفسها..لكن اللوم لايقع على نظام العولمة المتوحش ولا على أولئك النفر قليلي العدد المسيطرين على اقتصاد العالم بل اللوم كل اللوم يقع على أنظمتنا العربية والإسلامية المنفذة لسياسة هؤلاء الشرذمة القليلة فنست أو تناست هذه الأنظمة بأن النظام الاقتصادي الإسلامي هو الكفيل بحل كل المعضلات الاقتصادية لو طبق، فالزكاة لوحدها لو جمعت وصرفت على مستحقيها كما أمر به ديننا الإسلامي الحنيف لما كان هناك فقير أو محتاج فتاريخنا الإسلامي عندما تحدث عن خلافة عمر بن عبدالعزيز للمسلمين لم يذكر لنا هذا التاريخ أن سبب عدم وجود فقراء في عهده مرده إلى أن دولته المترامية الأطراف التي كان يحكمها كانت تصدر النفط والغاز مثلاً تماماً كماهو حال دولنا العربية والإسلامية اليوم والتي بالرغم من امتلاكها لكل تلك الثروات إلا أنها تزداد فقراً كل يوم. إن كل مافي الأمر أن عمر بن عبدالعزيز كان يمارس سياسة الحكم الرشيد القائمة على قاعدة العدل والمساواة التي قضت على بؤر الفساد بعد أن كانت قد أوجدت قلة من المنتفعين الجشعين المتاجرين بأقوات الناس والمتحكمين بمصائرهم ثم وهذا هو الأهم كانت هناك زيادة في الشحنات الإنسانية التي تحث على تعميق التكافل الاجتماعي بين أوساط المجتمع الإسلامي كافة دون الحاجة لأن يمد الفقير يده ليتسول لقمته من الغني حفاظاً على كرامته وقد قيل بأن الشخص الوحيد الذي كان يعاني من فقر مدقع في عهد خلافة عمر بن عبدالعزيز - وكان هذا الأخير لايلقي له بالاً - هو عمر بن عبدالعزيز نفسه رغم أن بيت المال كانت تفيض بالأموال بعد أن اغتنى كل المسلمين في عهده..طبعاً الرجل لم يكن ملاكاً منزلاً من السماء كما أن قصة حياته وسيرة حكمه ليست ضرباً من الخيال..فقط كان الرجل يخاف الله كثيراً فبنى لآخرته التي فيها معادنا ولم يحاول أن يبني لنفسه قصوراً أو إقطاعيات في دنياه لأنه علم وفهم تماماً بأنها أي الدنيا لاتساوي عند الله جناح بعوضة ولو كانت تساوي الكثير «ماسقى الله كافراً شربة ماء». عموماً أنا لست واعظاً ولا مرشداً دينياً ولا أصلح لذلك وإنما المسألة للتذكير فقط من باب «فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين» خصوصاً ونحن في شهر رمضان وفي الثلث الأخير منه والذي فيه العتق من النار. اللهم اعتق رقابنا ورقاب المسلمين من النار..آمين..اللهم آمين.