إن كثافة الحقد الصهيو - أمريكي من جانب، وثبات المقاومة الفلسطينية الأسطوري من جانب آخر، قد كشف وبدون أدنى شك، أن انتصار الأمة على عدوها ممكن، وممكن جداً جداً، ولا يتطلب قوة عسكرية هائلة وضخمة وجيوشاً متراصة، وبوارج تغطي البحر وسطحه، ولا طيراناً يحجب السماء، ولا ... ولا.. بقدر ما يتطلب إرادة سياسية، وإيماناً حقيقياً بالمواجهة واسترداد الحق. وهذا الكشف، لايعد مبالغة عاطفية بأي حال من الأحوال، فكثافة العدوان البربري، وما استعمل من أسلحة متطورة في فتكها وتأثيرها على كل حي، وهي أسلحة - بإجماع المنظمات الإنسانية وذات الصلة - محرمة دولياً، وأن ما اقترفته آلة الحرب الصهيونية فاق كل تقديرات المتحمسين لها، والداعمين لها، ناهيك عن أنها مثلت فاجعة للمجتمع الإنساني خارج ما يسمى «هيئة الأمم، ومجلس أمنها» وعبرت عن ذلك الجموع الحاشدة في كل بقاع الدنيا، وتوجها موقف الرئيس الفنزويلي الإنسان الحر، بطرد السفير الصهيوني، ومعه أخوه الرئيس البوليفي. نعم إنها هجمات وحشية بكل أسلحة الفتك، وعلى رأسها طيران متطور يقصف - بلا رحمة - عُزلاً لا يملكون إلا أسلحة متواضعة تمكنهم من ذبح الغاصب المعتدي على الأرض، ومع كل ما استخدمه من ترويع وتدمير وهدم للمنازل، والأحياء السكنية، التي جعل بعضها قاعاً صفصفاً، وقتل بوحشية لا مثيل لها في التاريخ أكثر من ألف وثلاثمائة شهيد هم نساء، وأطفال، وشيوخ مسنون، ومدنيون عزل، استشهدوا في منازلهم حين دمرها القصف المتوحش على رؤوس أصحابها.. يا لها من بطولة، ويالها من معركة، خرج منها زعيم الحثالة الصهيونية ببيان بشّر فيه عالمه الحقير في داخل الأرض المحتلة وفي الشتات الصهيوني العالمي، أنه حقق أهدافه، وبلغ ما أراد.. إنها أكذوبة كبرى، ولاغرابة في ذلك، فهذا الكيان أكذوبة كبرى، ويستمر وجوده عليها... والمأساة أن القادة العرب صدقوها، ويعمل عدد منهم على منحها مشروعية البقاء والاستمرار تحت عناوين مستمدة من ذات المشرب «الكذبة الكبرى» التي أسموها «اختلال موازين القوى».. إن غزة طبوغرافياً، كما شرح ذلك أهل الاختصاص في الاستراتيجيات العسكرية، لا تؤهل القوة القائمة فيها على خوض حرب تحقق لها ثباتاً طويلاً، وإنجاز انتصار بأي قدر أو مستوى هو معجزة عسكرية لم تكن بحسبان أهل الاختصاص، ولكنها كانت في حسبان المقاومة التي امتلكت ناصية النصر، وقاعدة المقاومة، وأرضية الثبات، وهي الإرادة والإيمان بمشروعية ما يقاتلون لأجله. وهكذا فإن أسطورة الرعب التي مثلت الكفة في الميزان، قد سقطت أمام ثبات الكفة الأخرى في الميزان، وهي أسطورة الصمود والمقاومة، فحق لأسطورة المقاومة أن تشكل على الأرض حقيقة دامغة، مدعمة بوحدة فصائل المقاومة ودعم المجتمع الفلسطينيبغزة، والقطاع والأرض المحتلة في 8491م ومعه المجتمع العربي والمجتمعات الإسلامية وكل أحرار العالم... وكان العملاق المجاهد إسماعيل هنية حين قال: إن النصر الذي حققته المقاومة هو نصر لكل فصائل المقاومة، ولغزة وللشعب الفلسطيني، وللأمتين العربية والإسلامية ولكل أحرار وشرفاء العالم، ولذلك فهو نصر وطني، وقومي، إسلامي، إنساني.. ولعل من مؤشرات الانتصار، تلك الفجيعة التي أصيب بها النظام العربي، وسعى كالذي لدغته أفعى يبحث عن مداوٍ، فأخطأ الاتجاه وذهب إلى سيده في واشنطن ونسي أن تلك الوجهة قد كشفتها المقاومة، وهتكت استارها وعرتها، كما عرتها المقاومة العراقية، وصارت معلومة لأطفالنا، أنها وجهة مصدر العدوان، وكهف كل السموم التي تتجرعها الأمة، ويترنح بفعلها النظام العربي، فزاد هذا التوجه من رصيد هذا النظام البائس، الذي يسير بسرعة فائقة نحو الهاوية والانهيار، بل لقد انهار هذا النظام في نفوس وعقول وحسابات كل قوى الخير والمقاومة في وطننا الكبير وكل بقاع العالم كافة.. ويمكننا القول: إن ثبات المقاومة والانتصار الذي حققته قد أفضى إلى: يقظة حقيقية في الشارع العربي والإسلامي والإنساني. ولادة ثقة عالية بالنفس لدى القوى السياسية والاجتماعية وجماهير الأمة، بتحقيق نصر حقيقي على عدو، سعت الآلة الإعلامية الصهيو- أمريكية، ومعها الآلة الإعلامية العربية كالنظام العربي الذي خضع للمهانة، وحاول الاتكاء في خضوعه على اختلال موازين القوى، وهذا ما دحضته المقاومة في غزة ومن قبل في لبنان، وفي العراق، وأفغانستان وغيرها حين توافرت الإرادة والإيمان بالحق ومشروعية الدفاع عنه واسترداد ما استلب منه. عودة القضية الفلسطينية إلى الضوء وعلى طاولات كل القوى الإقليمية والقومية والدولية، وفرضت نفسها بقوة. حدوث فزع واسع وكبير في أوساط قوى الطغيان العالمي، ومن سار في فلكها، فسارعت إلى محاولة إفراغ الانتصار من محتواه، والعمل على إنجاز ما لم تتمكن الآلة العسكرية بهمجيتها من تحقيقه، وقد ظهر ذلك واضحاً في مشهدين الأول، بتوقيع إدارة البيت الأسود ووليدتها المزروعة في فلسطين العربية مذكرة تفاهم لمنع إعادة تسلح المقاومة.. والعجيب أي تسلح هو هذا.. في حين مدت هذه الإدارة المجرمة كيانها في فلسطين بأسلحة فتاكة وذخائر لقتل الإنسان الفلسطيني بدم بارد وبمشاعر جامدة لا حياة فيها.. والمشهد الثاني، اجتماع «شرم الشيخ» معذرة «شرم الأمة»، إذ لم يحدث أن عقد فيه اجتماع إلا ونتج عنه مزيد من الشروخ في جسد الأمة وإرادتها وموقفها الموحد... وأن تجتمع هذه الدول الكبرى لتخطط لإضعاف المقاومة واجتثاثها يدل دلالة قاطعة على حقيقة الانتصار وحقيقة فعاليتها وتأثيرها على مخططات قوى الطغيان في هذا الجزء من الأمة. فزع أركان النظام العربي من أثر انتصار المقاومة الفلسطينية في شحن المعارضة وقوى التغيير في أقطار الأمة بوقود الحركة، ويقين بلوغ أهدافها في التغيير، وما يعنيه هذا من انقلاب حقيقي في واقع الأمة، وما يترتب عليه من رسم خارطة سياسية جديدة، تكون الغلبة فيها للقوى المنتمية للأمة وحقها في الحياة الحرة الكريمة بندية مع كل القوى الدولية، وبما يحفظ حقها في سياق الاحترام المتبادل والإقرار بمصالحها وقرارها المستقل. حدوث مفاجأة أربكت المعتدين المجرمين، ومن لف لفهم، وراهن على قدرتهم على إنهاء المقاومة وإغلاق ملفها، وتمكين المستسلمين من الذين يحملون المسمى الفلسطيني، ولاينتمون إليه، من زمام الأمور وتسيير دفة الحكم المفرغ من كل معاني هذا المصطلح من غزة والضفة وعلى النحو الذي يحفظ للمعتدين الغاصبين التفوق والبقاء في مركز القوة وصناعة القرار الفلسطيني، وقد دفعت المفاجأة أركان المؤامرة صياغة تمثيلية هزلية، فجة ومفضوحة، ترسم مشهد الهزيمة، بكلمات انتصار والنزول عند نداءات صديقة إلى ما أسموه «وقف إطلاق النار».. ونخلص إلى القول : إن رصد المؤشرات يتطلب إلى مساحة أوسع، فهي من الكثرة الكثيرة التي تتطلب دراسة معمقة ومستفيضة وهذا ما نرجو من الله أن يوفقنا إلى إجرائها.. وقبل اختتام هذا العرض، أجد من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن إعادة إعمار غزة المدمرة، مكافأة للقاتل المجرم، الآثم بواسطة السلطة واتخاذ مؤسسات العدو الصهيوني ومصارفه قنوات الإعمار، وبما يؤدي إلى إحداث انتعاش في اقتصاده، وتعويضه لخسائره الكبيرة ولتكن عملية الإعمار من خلال الأسواق العربية ومؤسسات الاقتصادات الوطنية والقومية بقطاعاتها الحكومية والخاصة، وباستخدام آلية جديدة تتجاوز «العملة الصهيونية» وتنتقل إلى اعتماد عملة بديلة تحقق انتعاشاً في الاقتصادات والأسواق العربية، وتحقق الفائدة المرجوة لحماية انتصار المقاومة، وإشعار المحتل الغاصب المعتدي المجرم أن أدواته في الهيمنة لم تعد ذات تأثير، أمام إرادة جديدة ولدتها المقاومة، وصاغتها تضحيات أهلنا في غزة وعمدتها دماؤهم الزكية، ورسختها أجسادهم الطاهرة، ورسمتها المنازل التي سويت بالأرض، وجثامين الشهداء تحت الأنقاض، وشرحتها آثار الجريمة البشعة على الأرض الفلسطينية وأحجارها وأسباب الحياة فيها.. ولذلك فإن بقاء الشارع العربي والإسلامي على نحو خاص ملتهباً بالقضية وحاملاً للوائها، مسألة غاية في الأهمية، لضمان حماية الانتصار، وفي ذات الوقت تمتين الوحدة بين الفصائل المقاومة من ناحية، وانتقالها إلى مستويات سياسية من ناحية أخرى، هي الضمانة الأكثر فاعلية في حماية الانتصار واستمرار الاقتدار وتناميه لبلوغ الحلم العربي الفلسطيني في التحرير وقيام الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، الذي يعده المهزومون بعيداً، ويأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يجعله قريباً بفعل مقاومة مؤمنة وحاملة للرسالة وعامرة قلوبها بالإيمان المطلق بالله ووعد النصر، ألا إن نصر الله قريب.. وإن انتصار المقاومة يعلن ولادة جديدة وعنواناً جديداً لمرحلة جديدة تتغير فيها الكثير من الملامح التي يعدها فرسان الخسارة الراهنة مسلمات وقواعد ثابتة.. وغداً لناظره قريب. والله من وراء القصد.