لقد تابعنا وتابع العالم كله كيف واجه سكان غزة تلك المجازر التي روّعت ضمير العالم، وكيف تحول القطاع إلى جحيم حقيقي.. كنت قد كتبت قبل عام تقريباً وبالتحديد في 2 فبراير 2008م تحت عنوان «الفلسطينيون هم الأقدر على الحل» وقلت إن ما يجري في قطاع غزة تتحمل نتائجه الأطراف الفلسطينية «فتح وحماس». وقلت إن حماس تأتي بالدرجة الأولى، لأنها أضاعت فرصاً كثيرة؛ كان بإمكانها أن تمارس السياسة بمعناها الحقيقي بدلاً من الشعارات الجوفاء والتصريحات التي لا تقف على أرضية صلبة. وتساءلت في تلك المقالة وقلت: إلى ماذا ستفضي الأمور؟ وكانت إجابتي على النحو التالي: إن اسرائيل تتجه نحو تدمير القوة العسكرية لحماس واستهداف القادة الميدانيين وتدمير البنية التحتية العسكرية التي أقامتها كل من حماس والجهاد في القطاع، وتصفية القيادات المؤثرة، وفصل القطاع عن سيناء إلى أن تصل حماس إلى مرحلة من الضعف؛ حينها ستسلمها اسرائيل القطاع، لأن السلطة الفلسطينية أصبحت غير موجودة، وستسلم اسرائىل القطاع لحماس بشروط محددة، لكنها قاسية خاصة بعد القضاء على قوتها العسكرية. ولأن عودة أبي مازن للسيطرة على غزة باتت في حكم الخيال، وأي حديث مع السلطة الفلسطينية أو محاولة تقريب وجهات النظر سيكون من باب إضاعة الوقت. وها نحن بعد سنة تقريباً نشهد تطبيق السيناريو تماماً؛ وبعيداً عن المغالطات التي اعتدنا عليها نحن العرب وعدم الاعتراف بالحقيقة، فإننا لا نسلم بما يُطرح اليوم من انتصار حماس!!. أي انتصار هذا الذي ذهب ضحيته أكثر من سبعة آلاف بين قتيل وجريح، وطمس غزة أو محوها من على الخارطة، وخسائر تزيد على ثلاثة مليارات دولار، ووضع من تبقى من الفلسطينيين داخل سجن كبير، إضافة إلى اليأس والإحباط الذي سيصيبهم بعد الحرب وما ستختزنه ذاكرة أطفالهم من مشاهد للدماء والأطراف الممزقة والجثث المتعفنة؟!. وللأسف الشديد فإن الذاكرة العربية معطوبة، فبعد أن كان المواطن العربي يطالب بوحدة عربية أصبح اليوم يحلم بتوحيد الضفة والقطاع، فالتفتت القائم بين غزة والضفة أحال القضية الفلسطينية إلى سراب!. ولكي نكون منصفين نقول إن القضية الفلسطينية لم تعد بأيدي الفلسطينيين وإنما أصبحت بأيدٍ دولية وإقليمية، وبسبب ذلك أصبح لكل عصابة نبي، ولكل صحابي ميليشيا. وها أنا بعد عام أكرر نفس القول وأقول: إن حماس تفتقر إلى الواقعية، فهي أرادت أن تكون في السلطة وأرادت في الوقت نفسه أن تكون في المعارضة. ولست أدري أي منطق هذا الذي جرّ حماس وفتح لصراع على سلطة ليست في واقع الحال سلطة ذات سيادة ولا تستحق الصراع عليها؟!. إن ما جرى ويجرى في قطاع غزة هو أحد إفرازات هزيمة 1967م حينما لم نعترف بهذه الهزيمة وأسميناها "نكسة" وهذا عيب من عيوب الثقافة العربية. فالألمان هُزموا في الحرب العالمية الثانية، واعترفوا بهزيمتهم، واليابانيون هُزموا كذلك واعترفوا بهزيمتهم وحاولوا تجاوز هذه الهزيمة، وأصبحت ألمانيا على ما هي عليه الآن وكذلك اليابان. أما نحن فمازلنا نكرر نفس المغالطات، فنسمي ما جرى في غزة نصراً، لأن هنية عاش وماتت غزة!. في اعتقادي أن رفض حماس للهدنة وشروعها في إطلاق الصواريخ كان خطأً كبيراً ارتكب - وسجلوا عليّ هذا الكلام - لأن أكثر من تسعمائة صاروخ لم تقتل اسرائىلياً واحداً. وكان الأجدى بحماس أن تمدد الهدنة وتبحث عن وسائل ممكنة لإشباع الحاجات الأساسية للشعب الفلسطيني الذي يعاني من الفقر والبطالة ونقص الخدمات. ولو سئلت بأثر رجعي لقلت: إن المصالحة بين فتح وحماس غير ممكنة؛ لأن الصراع بينهما ليس على أساس سياسي وإنما على أساس ديني، وهو يقسم المتصارعين إلى مؤمنين وكفار. كما أن اقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية غير ممكنة، لأن الخلاف سيكون على تشكيل الأجهزة الأمنية، وبيد من يجب أن تكون؟!. ولكي لا أفهم خطأ، فإن ما قلته ليس ضد حماس تشنجاً، ولكن عقلانياً - أنا ضد حماس الورطة والمأزق التاريخي الذي ورطت نفسها وورطت معها الشعب الفلسطيني - لأنها لم تفرق بين وجودها في السلطة من دون حقوق دولة وبين وجودها في المقاومة. وقد قلت أكثر من مرة: كان الأجدى بحماس أن تكون أكثرية برلمانية؛ تحاكم حكومة أقلية وتقيدها فيما لا يتناسب مع حقوق الشعب الفلسطيني؛ لكن فاقد الشيء لا يعطيه، فحماس لا تمتلك خبرة سياسية وهذا ما جعلها تفشل أو تُفشل. لقد دعيت حماس، أو بمعنى أصح حكومة حماس، بعد تشكيلها من قبل عدة دول عربية ونقلت إليها المحاذير التي تقف في طريقها وخاصة من قبل الحكومة اليمينية الأمريكية، وماذا تريد أمريكا بالضبط، وكان عليها أن تعي عوامل الإفشال والإسقاط والبحث عن مخارج. هناك بعض الملاحظات حول ما هو متوقع من ناحية الأفق، إذا افترضنا أن هناك حلولاً قادمة، فستكون متأخرة. ولن يستطيع الرئيس الأمريكي الجديد الإقدام على شيء حتى تتم الانتخابات الاسرائىلية وحتى يتضح الأمر ما إذا كانت ستتشكل حكومة وحدة وطنية، أم أن حماس ستظل على حالها. وحينذاك سيحدد مصير القضية الفلسطينية بناء على من يتم التحاور معه، والأمر مرشح إلى أن يحدث انقسام في الضفة وربما سعت اسرائيل إلى فك الارتباط مع القطاع إذا لم يكن هناك تسوية واتفاق والاعتراف بها شرعياً من قبل الشعب الفلسطيني والسلطة تحديداً. خلاصة القول.. هناك إجماع اسرائيلي وتمزق فلسطيني، وبالتالي لن يستطيع الفلسطينيون أن يصلوا إلى الحد الأدنى من حضور قضيتهم.