الصمود العظيم لجماهير الشعب العربي الفلسطيني في مدينة غزة المجاهدة من أجل الحرية يعكس إصرار المقاومة من جهة واستعداد الشعب للتضحية من جهة مقابلة، وهو ما جعل الكيان الصهيوني يفشل في تحقيق ما أعلنه من الأهداف المحددة بالاستيلاء على مواقع إطلاق الصواريخ.. ويكتفي فقط تحت ضغط العالم وتظاهراته الصاخبة والغاضبة بتوجيه ضربة ردع عنيفة بالأسلحة المحرمة والقاتلة للحياة والمدنية لكي تبقى ذكرياتها المأساوية رادعة لكل من يفكر بالمقاومة للاحتلال وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة؛ يتذكرها الأبناء والأحفاد مما لحق بالآباء والأجداد من كوارث قتل وتدمير أغضبت الله في السماء وأغضبت الإنسانية في الأرض، وحولت أجزاء من مدينة غزة إلى أثر بعد عين على نحو لم يسبق له مثيل في مراحل العدوان الاستعمارية المختلفة. صحيح أن هذه الحرب البربرية المجنونة لا مثيل لما استخدمته وتستخدمه من الآلات العسكرية المتطورة في تاريخ الصراعات والحروب الاستعمارية القديمة والوسيطة والحديثة؛ إلا أن الأصح من ذلك أيضاً هو أنه لا مثيل لهذا النوع من المقاومة الصامدة التي حوّلت ضعفها إلى قوة، وحوّلت قوة المعتدين إلى ضعف ألحق بهم الهزيمة المخزية وجعلته ورقة بيد المعارضة الاسرائيلية تزايد بها على جبابرة الحكومة وقياداتها المهزومة. لكن هذا الصمود الذي دفع الشعب في غزة ثمنه غالياً غلاوة الدماء الزكية والأرواح الطاهرة التي أريقت وأزهقت بغزارة تجاوزت السبعة آلاف بين قتيل وجريح ربما تحولت في السياسة إلى عائق للحيلولة دون قدرة المقاومة على مواصلة إطلاق ما لديها من الصواريخ بدافع الخوف على حياة الشعب وليس بدافع الخوف من إقلاق أمن واستقرار الأعداء. أقول ذلك وأنا على قلق مما يحاك على الشعب الفلسطيني من مؤامرات سياسية تحاول أن تحقق بالسلم ما عجزت عن تحقيقه بالقوة عن طريق المساواة بين الجلاد والضحية وإلقاء المسؤولية على اسرائيل وعلى المقاومة في آن معاً، ولعلهم بمقتضى القرار الأممي الفضفاض الذي اقترحته الدول العظمى الدائمة العضوية وتحفظت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية بالامتناع عن التصويت عليه رغم أنها شاركت بصياغته الأولى قبل أن تدخل عليه تعديلات عربية بسيطة يريدون الحيلولة دون تحقيق الوحدة الفلسطينية. أقول ذلك وأقصد به أن هذه القوى الدولية تحاول اليوم دون خوف ولا خجل أن تحقق لاسرائيل بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بقوة الحديد والفولاذ بعد صمود لا مثيل له في تاريخ الصراعات والحروب التحررية غير المتكافئة على نحو يستوجب من حركة حماس وحركة فتح التواضع والابتعاد عن الغرور باعتباره مقبرة الأبطال وعدم تجاهل حماس للدور النضالي لمنظمة التحرير الفلسطينية واتهام قيادتها بالعمالة لاسرائيل من باب الخوف على السلطة أو الطمع فيها. ومعنى ذلك أن حركة حماس تستطيع أن تجمع بين مسئولية السلطة بأساليبها التفاوضية السياسية المحكومة باتفاقات أسلو وما أعقبها من الحوارات السلمية؛ وبين المقاومة بأساليبها الجهادية دون تحمل جزء من مسئولية تعريض المدنيين لعقوبات جماعية من خلال صواريخ تمنح العدو الاسرائيلي مبرراً لضرب المدنيين العزّل من السلاح. أقول ذلك وأقصد به أن السلطة الفعلية على غزة مازالت بيد الاحتلال الاسرائيلي؛ لأن خروج اسرائيل من غزة لا يعفيها من تحمل مسئولياتها الاستعمارية تجاه حماية المدنيين وممارسة القوة المطلقة في العدوان عليهم من باب رد الفعل على صواريخ المقاومة رغم أن الخروج من غزة كان تحت ضربات المقاومة وعدم قدرتها على الانتقام من الشعب. فهي تتعامل مع المقاومة بما يشبه السلطة الوطنية المستقلة المسئولة عن حماية المدنيين في وقت أصبحت فيه متهمة بالانقلاب على رئيس السلطة الفلسطينية التي قامت بموجب اتفاقات أسلو وما ينطوي عليه من الاتفاقات والالتزامات السياسية. أقول ذلك وأقصد به أن خط المقاومة لابد أن يستمر جنباً إلى جنب مع الخط السياسي للسلطة بذات الأسلوب الذي كان سائداً في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات; لأن وجود سلطتين صوريتين في أرض مازالت غير محررة من الاستعمار الاسرائيلي معناه أن اسرائيل سوف تسعى باستمرار إلى خلق التصادم الذي يوصل السلطتين إلى ما يشبه الحرب الأهلية التي يتضرر منها الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية واختلافهما في التكتيك والاستراتيجية على نحو يضاف إليه العدوان الاسرائيلي العنيف والقاتل الذي يجعل أبناء الشعب الفلسطيني هدفاً لهذا النوع من العنف المركب الفلسطيني الفلسطيني والاسرائيلي الاستعماري الموجّه ضد السلطتين في غزة وفي الضفة الغربية الذي يضاعف من حجم التضحيات الفلسطينية ويعمل للحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. صحيح أن المقاومة نجحت في صمودها الأسطوري وأجبرت اسرائيل على الانسحاب من غزة قبل إسكات صواريخ المقاومة؛ لكنه أوقف العدوان الهمجي من جانب واحد، وقف مشروط بإسكات صواريخ المقاومة التي يعترف ضمناً بأنها الطرف الثاني ، وينكر عليها بأنها الطرف الصامد الذي أفشل العدوان الاسرائيلي وأجبره على وقف الحرب والانسحاب دون تحقيق أهدافه وتحويل المستقبل إلى معركة غير مباشرة بين سلطتين متناحرتين ومتقاتلتين إحداهما تطلب حكومة وحدة وطنية تسكت عملية المقاومة، والثانية تطلب حكومة وحدة وطنية أساسها المقاومة في معركة لها بداية وليس لها نهاية إلى أن يتبخر حلم الدولة الفلسطينية الموحدة التي تحتاج إلى الوحدة الوطنية كأساس متين لنجاح كل الأساليب الكفاحية السياسية السلمية منها والكفاحية المقاومة والمجاهدة. حقاً لقد كان لحركة حماس شرف الانتصار في هذه الحرب غير المتكافئة التي تعتقد اسرائيل أن المقاومة لن تعود إلى إطلاق ما لديها من الصواريخ تحت شبح الخوف على حماية الشعب الفلسطيني من العواقب الوخيمة للعدوان الاسرائيلي الدامي والمدمر. إلا أن هذه الانتصارات الباهظة الثمن يجب أن لا تدفع حماس إلى مواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية واتهام قياداتها وقواعدها بالعمالة والخيانة واتهامهم بما ليس فيهم من العيوب الملفقة بدافع الخوف على السلطة أو بدافع الطمع فيها حتى ولو أسفرت عن تمزيق الوحدة الفلسطينية وتبديد الانتصارات التي هي ثمرة طويلة من المقاومة الجهادية التي اضطلعت بها منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي المعترف به في كل الهيئات والمنظمات الدولية سواء تلك المؤيدة للقضية الفلسطينية أم تلك المؤيدة لاسرائيل. كما أنه ليس من حق منظمة التحرير الفلسطينية السعي إلى تهميش المنظمات الإسلامية والجبهة الشعبية وتحميلها مسئولية ما لحق بغزة من القتل والدمار؛ لأن الواقع الماثل للعيان لا يمكن تطويعه وتفسيره لصالح هذه المنظمة أو تلك على حساب غيرها من المنظمات الفلسطينية الموجودة والمناهضة للاستعمار التي تناضل بكل الأساليب والوسائل السلمية والعنيفة من أجل تحقيق حلم إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف طبقاً لما نصت عليه قرارات واتفاقات الشرعية الدولية التي لا يمكن النظر إليها بمعزل عن التضحيات الفلسطينية الطويلة. إن المقاومة مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تطور أساليبها ووسائلها الكفاحية في نطاق استراتيجية فلسطينية وعربية موحدة غايتها الوصول إلى حلم الدولة الفلسطينية بأقل قدر ممكن من التضحيات الفلسطينية التي تجاوزت كل ما هو معقول ومقبول من الدماء والأرواح والاستفادة المستمرة من جميع المبادرات والقرارات الدولية وفي مقدمتها المبادرات العربية؛ أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مبادرة السلام العربية والمبادرة المصرية والمبادرة التركية والمبادرة اليمنية النابعة من الحرص على تحقيق الوحدة الفلسطينية باعتبارها الأساس لكل الانتصارات العسكرية والسياسية الفلسطينية السابقة واللاحقة للعدوان الاسرائيلي. أخلص من ذلك كله إلى القول إن جميع الفصائل الفلسطينية بحاجة إلى الموازنة بين السياسة وبين المقاومة من خلال حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع دون استثناء.