كان قلبها أشبه بمنجم من الماس؛ لكن ذاكرتها مليئة بالزوايا التائهة، وكثيراً حاولت اختزال جراحها لتستطيع ترقيع هامشها معه.. عبثاً اجتثت جذور شبابها لتغرسها في صحراء حياته.. كمدٌ أن تعيش عمراً بقلبٍ يأكل الجوع ويشرب الظمأ.. قهرٌ أن تسرق حتى ابتسامتك فيغتالك الحزن في دمعة.. أن تهرب حتى مفاصلك فتسقط في الزخم البشري المترنح، كانت هي الأم والمعلمة صاحبة المبادئ السامية والكثير من ذلك الذي لم يكن يراه هو إلا نقمة عليه وعلى حريته التي هي أدنى من أن ترفع. كانت مثل تلك المدرجات المنيعة تمنع تربة الحب من الانجراف، حاولت أن تصنع من ذلك الضعف الذي عاشت قوة تدفعها لتصنع المستحيل.. مرت أيام عمرها بطيئة، تزحف ساعة وتتكئ على قارعة الهم ساعة ولكنها مرت بكل ما فيها من ابتسامات ودموع.. أحلام وأوهام، وحين كبر أطفالها بين يديها شعرت أنها ملكت العالم.. وهي تستقل سيارة الأجرة نظرت بعيداً خلف أسوارها وتذكرت حين رآها للمرة الأولى وهي لم تتجاوز بعد عامها الخامس عشر.. تذكرت كيف كانت تخفي ظفائرها بخوف.. ترتدي ملابس واسعة تخفي عنه بروز أنوثتها.. كان قريباً منها مكاناً وزماناً.. تشاطرا ليالي طوالاً من الجهد والسهد حتى يكملا دراستهما الجامعية.. وبعد أن صار لهما شريك صغير هو «أحمد» تبادلا كثيراً أدوار الأبوة والأمومة بين ذهابٍ وإياب.. ثم رغبا بفرح الطفلة المدللة فكان لهما «أحمد وفرح».. ترجلت عن سيارة الأجرة ومشت خطواتٍ مهزومة نحو باب المستشفى لولا أن أوقف تلك الخطوات الخائفة صوت سائق التاكس طالباً الحساب. عادت مسرعة لتلقي بين يديه بمبلغ هو أكثر مما يستحق ذلك السائق، لكنها ما عادت تهتم.. ركضت مسرعة نحو المدخل وانطلق السائق مسرعاً فلربما غيرت رأيها وعادت تسترد البقشيش.. كادت تتعثر لكنها رفعت جسدها كما يرفع دلو فارغ عن «غيابة جب».. حين وصلت إلى غرفته المعزولة في آخر الممر خفق قلبها بقوة وكادت تختنق وهي تتلمس طريقها نحوه.. كان جسداً خاوياً من الحياة الكاملة إلا عينيه.. كانتا نجمتين آفلتين في كون معلق.. وبدأت شلالات الذكريات تنهمر أمام عينيها.. تذكرت فرحة عينيه عندما أنجبت «فرح».. احتفالهما بأول محاضرة يلقيها في الجامعة.. كان أباً عطوفاً.. وكان رجلها المدلل الكبير، وأحست أنه يريد أن يخبرها شيئاً.. كانت تسأله بلا صوت.. تحدثه بلا لغة.. تقترب ثم تقترب حتى صار سمعها محاذياً شفتيه اللتين اهتزتا بكلمات لم تجد لهن معنى حينها، ثم رحل.. صرخت طويلاً.. سكبت بحراً من الدمع على ساحل عينيها.. وانطرحت على باب الجليل تسأله أن يرحم ضعفه وحزنها عليه.. لكنها أحست أنه كان يخفي شيئاً. وبعد أن جف دمعها وبدأت رياح النسيان تهب على صحراء قلبها وكانت ممن لا يحتملن البقاء بلا عنوان، اختلست النظر عنوة إلى أوراقه وكتاباته وأشعاره ومحاضراته فلم تجد شيئاً يبعث على الشك بوجود الإخلاص على محك الحياة والموت.. ما تراه كان يقصد بإخلاصه لها؟!. ووجدت أن تقتفي آثاره باليقين، فالتقت بطبيبه الذي رافقه طوال فترة المرض، وكانت الصاعقة التي جعلت قلبها يرقص رقصة الموت على عمر مضى.. ودارت الدنيا من حولها وهي قائمة بين يدي الدهشة يخنق كلماتها الذهول وتمر أمام عينيها حركاته وسكناته.. ابتساماته وضحكاته.. مداعباته لأطفاله.. باقة الحجج الواهية التي كان يخفيها خلفه وهو يعتذر عن انشغاله الدائم.. قلبها الذي لم يكن يعرف غير الغفران، كان مصاباً بالإيدز.. كان كان يعاشر ال..لا..لا ليس هو.. لم يكن..! إنه.. إنه.. لكن الطبيب حاول أن يشرح لها أن إصابة زوجها لم تكن إلا عدوى ولم تكن لتصدق.. وبرغم دقة التحاليل وبرغم صراحته مع طبيبه الخاص وبرغم الرسالة التي تركها مع الطبيب وأكد لها فيها أنه لم يكن خائناً ولم يكن له علاقات شائنة.. برغم كل ذلك.. لم تصدق حتى وإن كانت إصابته مجرد عدوى..؟! من أين لي أن أعلم أن مختبرات العالم تقول الحقيقة.. قالتها في نفسها وهي تخفي ما تبديه عيناها..!. لقد وصلت إلى القناعة التي تخولها أن تبقى صامتة إلى الأبد.. لكن كيف ستواجه المجتمع، ماذا ستقول لأبنائها عندما يسألون، كيف ستقف أمام نفسها وهي تشعر أنها نصف أنثى أو بعض امرأة أو سديم أثيري ليس له وجود..؟!. وانغمست في بحر من الحيرة وهي تصول وتجول بأفكارها فاقدة زمام الراحل والراحلة.. هل تكون العدوى قد اكتستني.. هل وصلت إلى دماء أولادي؟!.. هل كان يفعل ما يفعل وأنا المغفلة التي تسكن زاوية التضحية دون أن تكون لها إرادة؟! هل كان ابتعاده طويلاً خوفاً علينا أم رغبة عنا؟! لِمَ لم يتحدث إليّ.. آه.. وهل كنت لأصدقه؟!!. صرخت وهي تبصق على أوراقه المبعثرة هنا وهناك.. كثيراً ما كان يحاول إيقاظ الغيرة بداخلها؛ لكنه كان يبررها باختبار الحب.. وبدأت أفكارها تحط الرحال على محطة الواقع.. كان أنيقاً بفطرته.. ربما يتعمد جذب النساء إليه لكن إلى الحد الذي... لا... لا يمكن.. يفعل الرجال ذلك.. يجيدون رقصة الطاووس؛ لكن ليس كلهم صقوراً كما تعتقدُ النساء!. اصطفت الطالبات استعداداً لتحية العلم.. فوقفت كعادتها.. شامخة.. تردده وهُنَّ حرفاً.. حرفاً.. واستمرت ترفرف بجناحٍ منكسر وحولها شابان جميلان وهي تنظر إلى السماء تخط بعينيها رسالة شكر للواحد القهار أن «أحمد وفرح» لم يغرقهما طوفان الإيدز.. ذلك المرض القادم من أرض النار والضباب والرماد.