عندما بدأتُ أعي وأدرك ما حولي؛ لم أكن أرى في الشمع وسيلة إضاءة بديلة، ولم أكن أفهم أصلاً ارتباطه بأعياد الميلاد «وسنة حلوة يا جميل..». ففي القرية كان الشمع هو الشيء الوحيد الذي ترسلني والدتي- رحمها الله - لشرائه من الدكان؛ ولكن ليس لإيصاله إلى البيت، بل إلى عجوزة كانت وظيفتها الوحيدة هي القيام بخدمة ضريح يسمى ضريح «الولي الجنيد». بمعنى أن الشمع كان في نظري شيئاً روحياً أو كهنوتياً؛ له علاقة بالأرواح وخصوصاً أرواح ما يعتقد الناس أنهم أولياء الله الصالحين الذين تعد أضرحتهم جزءاً من الطقوس الدينية، ويعد التقرب إليها بالذبائح أو بالسمن أو بإضاءة الشموع شيئاً ضرورياً لحماية النفوس من أي شر، وكسب مفاتيح الخير والفأل الحسن، وما إلى ذلك من الاعتقادات الباطلة التي وقع الناس نتيجة الجهل والخرافة والأساطير أسرى الكثير من المشعوذين والدجالين الذين استغلوا حب الناس لكثيرين من الأولياء الصالحين وكثيرين من المتصوفين، وقاموا على سدانة أضرحتهم كسباً لمصالح مادية ومعنوية. .. والمهم هو أن تلك الوظيفة الأولى التي عرفتها بالنسبة للشمع قبل أن أشاهد المسلسلات المصرية وأفهم استخدام الشمع في أعياد الميلاد وكثير من الاحتفالات وهو الاستخدام الذي لايزال بالنسبة لبلد مثل اليمن شيئاً نادراً، والنادر لا حكم له، ولا يمكن التعويل عليه لرواج تجارة الشموع في بلادنا. لكن لأن أبواب الرزق مفتوحة فلم يكن الإفلاس هو النتيجة الحتمية لتجار يعولون على «شموع الأضرحة» التي اندثرت بفعل تزايد الوعي أو شموع احتفالات الميلاد التي مازالت محدودة في بلد يعتبرها عادات أجنبية دخيلة على قيم مجتمعنا الإسلامي.. فقد كانت ظاهرة الانطفاءات المتكررة للكهرباء "الدجاجة التي تبيض ذهباً" لتجار أو ملوك تجارة الشمع. ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي انتقلت الشموع من نطاق محدود ربما لا يتجاوز ثلاثمائة أو خمسمائة ضريح على الأكثر في أنحاء الجمهورية - وهذا إذا كان الكل من سدنة الأضرحة يعملون مثلما يعمل لدينا سدنة الجنيد - لتدخل الشموع وتضاء يومياً في مختلف مدن الجمهورية اليمنية. وللأسف الشديد، كم تحدثنا وكتبنا عن ظاهرة الانطفاءات للكهرباء، ومنذ أن كنا في الجامعة، وكم وصفنا معاناتنا حينذاك، ومعاناة كل الطلبة والطالبات في ذلك الوقت ولاحقاً وحتى اليوم وغداً. وكم نبهنا إلى مسألة الانطفاءات المتكررة والمفاجئة للكهرباء وأثرها في تدمير الكثير من الأجهزة الكهربائية سواء الثلاجات أم الغسالات أو التلفزيونات أو غيرها، ومدى الخسارة الفادحة التي تلحق بالمواطنين الذين تدمر أجهزتهم دون ذنب أو سبب اقترفوه هم، ثم لا يستطيعون استبدالها ولا أحد يعوضهم. .. ولأن البعض يعتقد كثيراً بنظرية المؤامرة؛ ويحدثك أن عدم إصلاح الكثير من الطرقات والشوارع المخربة يعود إلى صفقات بين المعنيين وبين تجار أو ملوك تجارة قطع غيار السيارات الذين تصبح تجارتهم رائجة في ظل عدم صيانة الكثير من الشوارع والطرقات، فهناك من يذهب إلى حد القول إن عدم قدرة الوزارات المتعاقبة على الكهرباء وعجزها عن إيجاد حل لمشكلة الكهرباء وظاهرة الانطفاءات يعود إلى ضغوط يمارسها «ملوك الشمع» لإبقاء الحال على ما هو عليه!!. وهذه التناولة ليست اتهاماً؛ ولكني أسوقها هنا من باب ذكر الحال التي وصل إليها الناس من «الطفش» و«القرف» والإحباط الذي يجعلهم يؤمنون بأن كل شيء جائز، وكل احتمال وارد حتى لو كان ذلك غير صحيح وغير معقول. .. وأخيراً أقول: رحم الله تلك العجوزة التي كنت آتي إليها بالشمع لتضيء ضريح الولي الصالح «الجنيد» فلو كانت عاشت حتى تشاهد مدننا وبيوتنا كافة تضاء بالشموع لاعتقدت أننا نعيش في بلد الأضرحة وجمهورية الشموع!!.