إذا ساقتك الظروف أن تكون زائراً لبلاد الهند العظيمة بلاد راج كابور.. وجي تندرا.. وسرديقي.. وهميما ماليني.. وامتياب باتشان وإشواريا راي.. الذين سلبوا عقولنا، وأصاغوا وجداننا أيام الشباب والمراهقة، وربما حتى الآن، أقول: سوف تأخذك المفاجأة عندما يأتي أحد الهنود من أولئك الذين يعملون في البنوك أو الشركات أو المصانع العملاقة إلى منزلك كي يعرض عليك خدمة أو قرضاً مغرياً لشراء سيارة، وقد يكون العرض قرضاً لشراء منزل لك ولأسرتك، أو قرضاً دراسياً تدفع أقساطه مدى الحياة، على شرط أن تعمل لديهم حال تخرجك واتمامك لدراستك. يكفي أن تكون موظفاً أو عاملاً لتحصل على مزايا وإغراءات في مجالات كثيرة، وتستطيع اقتناء أي شيء ترغب فيه بكل يسر وسهولة. أنجزت الهند مشروعها الحضاري ونهضتها الاقتصادية والعلمية في وقت وجيز لا يتعدى عقداً ونصف العقد من الزمان بعد أن كانت حتى وقت قريب تتسول وتعاني لأجل رغيف العيش، وبعد أن جاهدت كثيراً لترسل مواطنيها يجوبون آفاق العالم لأجل الفوز بفرصة عيش كريمة لمواطنيها وتحسين دخل البلاد كذلك في عواصم العالم القريب منا نحن العرب مثل أنقرة، وطهران، وكوالالمبور، يفعلون ذلك، ولم يعد الناس في هذه العواصم يشتكون البطالة، ولا الأمية ولا انعدام مشاريع البنية التحتية، ولا اضطهاد وإقصاء النساء من المشاركة في العملية السياسية، أو عملية التنمية.. في تلك البلاد لا تكاد تسمع شكوى من التطرف أو الاستبداد ولا شكوى من غياب العدالة الاجتماعية، ولا تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الحاكم والمحكومين، ولا شكوى من تفشي الفساد الذي صار فاكهة كل لقاء بين المثقفين في البلاد العربية. إنهم هناك يتداولون السلطة السياسية بكل ثقة ومسؤولية دون التلويح بعواقب وخيمة أو كوارث عنيفة لمجرد التفكير بالتغيير، كما أنهم يتبادلون المواقع الإدارية من أرفع المناصب إلى أدناها بكل يسر وسهولة. السياسة عندهم، والمنصب السياسي وسيلة من وسائل التغيير لأجل تحسين مستوى معيشة الناس وتطوير واقعهم، لم تعد السياسة لديهم ولا الحكم ولا المنصب هدفاً بحد ذاته قدر ما هي أداة ناجزة لمستقبل يأمن فيه المواطنون على حياتهم وحياة أسرهم والاطمئنان على ضمان العيش بكرامة وأمان يلبيان كافة حقوقهم الآدمية. إن همومهم لم تعد من ذلك النوع الذي يشكون فيه من مناهج التعليم العتيقة التي لا تلبي حاجات التنمية، ولا من الانتظار الطويل في طابور الوظيفة العامة بعد التخرج، ولا من قلة حصة الفرد من الماء أو انعدام الكهرباء، أو الفرار من عصابات التسول المزعجة، بل صارت همومهم من نوع آخر!. يفكرون في المنافسة والتسابق على التصنيع وتطوير وزيادة دخل البلاد من خلال جذب أكبر عدد من السياح والزائرين لبلدانهم.. يفكرون في الفضاء وتطوير الابتكارات والاختراعات والبرمجيات المختلفة. ببساطة شديدة هم يفكرون في المستقبل وأحسن السبل ليتحول حاضرهم هذا رغم نصاعته إلى مستقبل أفضل بعد خمس أو عشرين من السنوات. الحالة البائسة التي تعيشها المرأة، أو الحزام الناسف الذي يتمنطق به انتحاري نذر نفسه للتقرب إلى الله بقتل الأبرياء والمساكين لم يعد هاجساً يخيفهم أو يعيقهم. يا إلهي.. ما الذي يمكن أن نقوله لو ذهبنا بعيداً؛ صوب واشنطن أو لندن أو مدريد.. على سبيل المثال؟!. تلك قصة أخرى، وعالم آااااااخر لن يضاعف خجلنا فقط ؛ ولكنه سيشعرنا بحجم المأساة. واقع أفريقيا السوداء وهي تضع أقدامها على عتبات الطريق الصحيح يفتح الباب لمئات الأسئلة أمامنا.. لماذا، وكيف، ومتى؟؟ ولن تكون الإجابة سوى فضح ذلك المشهد المزري الذي نحن فيه، بما يشي أننا لسنا سوى جثث تتحرك صوب المستقبل الذي لم نخطط له، ولا نعرف عنه شيئاً، صوب المجهول.. والمجهول فقط. لنا أن نعيش ولنا أن نتحرك، لنا أن نفرح، ولنا أن نضحك، ولكن بخجل شديد.