لاتتشابهُ الأحداث أبداً ولايستقيم ظلال الليل على صدر النهار مهما بدا لنا أن الليل خاضع ساكن جميل، غير أن الليل الذي لايعرفه إلا من اكتوى بشمس الأحداث وذاق مرارة النظر إليه كميت تتلى عليه آيات الرحيل الأخير دون أن تلفهُ أكفان أو يحتويه قبر أو تشيع له جنازة. يفترش أحزانه ويلتحف آهاته ويمضي.. يمضي كما تمضي قوافل البشر يوماً بعد يوم من أرض الحياة إلى أرض الموت.. يمضي حاملاً بين كفيه هواء وبين عينيه عناءً وينبض قلبه بالأسى، في كل مرة يُدق هذا القلب تجترُ روحه مواويل الفراغ عن جسد خاوٍ من كل شيء إلاَّ لحم ودم.. ماعساها تحملَ الرغبات.. بقعة ضوء.. ماعساهُ يقتاتُ من تَفْلِ البشر..! يا لهذه الحياة ما أغربها!! ترفعك لتطال النجوم وتداعب القمر بكفيك وتقيل على متن السحاب وتغازل خيوط الشمس ثم تهوي بك حيث لا نجم ولا شمس ولا قمر، غير أن السماء تبقى سماءً والأرض تبقى أرضاً لا غريب فيها ولا عجب منها.. نحن الذين صنعنا العجب، ونحن الذين ألفنا الغرابة.. مسكينة تلك القلوب التي تئن خلف ضلوعنا ولا نسمع لها صوتاً، تخور منهكة يأخذ منها زيف الأيام وغدر السنين ما يأخذ وتبقى داخل صدورنا قابعة إلى أجل مسمى لاتغادر أجسادنا ولا تشكو هول باطلنا وعبث أمنياتنا وصخب أحلامنا وتبقى مساحات أجسادنا حقولاً يحين حصادها قبل أوانها وأصابع الصبر في أيدينا محراثاً لتربتنا وأكتافنا خيالا تقف عليه طيور الحقول مترنمة بالشقاء. من منا لايتمنى أن يستقطع من عمره يوماً يسير حافياً على الطين تحت مظلة المطر يغسل عروق حياته ويُسقي شرايينه ويسمح للطوفان اللذيذ أن يغمر جسده دون أدنى مقاومة. من منا لايتمنى أن يسير حراً في غابة جميلة يقتات الثمار.. يعبّ من ماء العيون ويحاكي الطيور والنجوم والقمر.. يتسلق الأشجار وينام مثل الصقور عزيزة وإن عانت الضيم وشق صدرها الأسى. من منا لايحب أن يتعرى تماماً من هموم الحياة ويعود طفلاً كما كانت تلقمه أمه ويسقيه أباه ينام خالي البال لايقف بينه وبين السعادة إلا أن يغمض عينيه ويحلم.. من منا لايحلم أن يكون له جناحان كطيور السماء لايبقيه على الأرض إلا الليل.. الليل الذي يغلف الكون بالجمال والخوف والسكون. الليل الذي يعملنا الصبر ويدرسنا على مقاعده معنى التضحيات ويفرش غدنا قبل أمسنا وأمسنا بعد غدنا منذ أول يومٍ تعلمنا الحياة يفرشه بالقناعة فلا أجنحة ولافضاء ولابراءة.. لا غابات ولا صحارى وإنما بشر من لحمٍ ودم يبقى كل مانتمناه أحلام يقظة أو أحلام ليل رمادي تمخض عن نهارٍ طويلٍ وألقٍ فينا أطول.. ونختلف.. نختلف عن كل شيء حولنا لأننا بشر.