أحرص وأنا أزور مصر على أن أرتاد مكتبة الحاج محمد مدبولي في قلب القاهرة لأرى جديد ما نشر. من أسبوعين مضيا، دلفت إلى المكتبة فوجدت كل شيء بارداً؛ فقد مات الحاج مدبولي الذي كان يقابلك بابتسامة التاجر وعقلية المهني وحس المخبر!!. فلقد بدأ الحاج محمد حياته المهنية بائع صحف ينادي كغيره من باعة الصحف وبصوت عالٍ: «أخبار، أهرام، جمهورية». وسرعان ما تفتحت قريحته على عمل أكبر، فصادق رجال الدولة، ابتداءً من العهد الملكي حتى محمد نجيب وعبدالناصر وهيكل وثروت عكاشة وغيرهم، وفي الأخير أصبح من كبار الناشرين في العالم العربي، ثم مات!!. كان مدبولي ذكياً جداً، ومن وجهة نظري الشخصية كان يرتبط بالحكومة المصرية على نحو ما، فلقد كان فيما يبدو لي أداة من أدوات الضغط على بعض الأنظمة خاصة التي لا تعتمد الولاء لمصر أم الدنيا والعرب معا!!. فلقد كان مدبولي يقوم بنشر كتب للمعارضة في أي بلد، ربما حينما تريد مصر ذلك مجرد رأي خاص بي وكانت عنوانات هذه الكتب تبدو فاقعة إلى حد بعيد. وكان أحياناً فيما يبدو يساعد في اقتراح عنوان أدبي مثير ليجني منه أرباحاً طويلة، وربما تتدخل سفارة البلد هذا أو ذاك لتعرض على مدبولي عشرات الأضعاف ليسحب الكتاب من السوق. هذا الكلام مجرد حدس مني، وقد لا يكون صحيحاً، المهم هل تريد كتاباً يعرّي هذا النظام أو ذاك، عليك أن تذهب إلى مدبولي. لم يكن يهمني ذلك وإنما كان أساتذتي أثناء تحضيري للدكتوراه في قاهرة المعز يرشدوني إلى الحاج الذي يأخذ بيدي باتجاه المخزن الدهليز داخل العمارة فيعطيني الكتاب؛ وهو لا يستغرق أكثر من دقيقة ليقول هذا الكتاب داخل، أو هاهو؛ أو تعالى لي يوم «التلات عشرة صباحاً» ومن حقه أن يضاعف الثمن. وكان شحيحاً رحمه الله ومستغلاً إذا كان الكتاب نادر الطبعة أو معدوماً في السوق، وفي الغالب أن هذا الكتاب السياسي ضد بلد أو آخر، قد يكون مثيراً في عنوانه وحسب، وأحياناً في الموضوع. كان الحاج مدبولي حريصاً أن يحضر معارض الكتب الدولية، وقد رأيته بأكثر من معرض في صنعاء. ما دفعني لكتابة هذه الخاطرة هو أنني افتقدت مصدراً من مصادر الحوليات العربية، وهو الحاج مدبولي، فقدت ما كان يذيع المسكوت عنه. ووازنت بين من ينشرون عنوانات الإثارة بذكاء وفهم وإدراك للأمور، وآخرين ليس لهم من زاد إلا الغباء السياسي وفقدان الحس البعيد الذي يمنحهم ذكراً قصيراً؛ بينما دخل مدبولي التاريخ الثقافي والسياسي من أوسع الأبواب، مع أنه كان أميّاً رحمه الله. وغداً نلتقي.