سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحاج مدبولي:مساحة الحرية في عهد عبد الناصر كانت اكبر... ومساحة الابداع والنشر اوسع عبد الناصر كان مرشدي الاول لخطوات حياتي من بائع صحف متجول في الشوارع الى ناشر
قصة هذا الرجل تستحق جائزة الابداع الانساني في المشهد الثقافي المصري والعربي, قصة رجل لم يتخل عن طموح واحلام فتى صغير في قا ع المدينة, بائع صحف متجول بين شوارع القاهرة, حتى امسك بالحلم واصبح في القمة كأشهر الناشرين العرب, واصبح اسمه يتصدر خريطة المدينة لمن يسأل عن عنوان داخل القاهرة المشحونة بملايين البشر والمئات من الشوارع والكباري والانفاق.. هو الحاج محمد مدبولي صاحب مكتبة ودار نشر وتوزيع مدبولي. الرجل تربطه علاقة اقرب للعشق بثلاثة: الكتاب, وصعيد مصر, والزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. وداخل المشهد الحافل بالكتب والمراجع يبدو امامك وكأنه »الجاحظ« وقد عاد يسكن بين عشرات الآلاف من عناوين الكتب.. الجاحظ في جلبابه الصعيدي, يتحدث بعفوية بسيطة, وبكلمات اكثر تعبيرا, ويطرح افكارا تكشف عن تجربة طويلة وعميقة استمدت من »الكتب« التي يعشقها رحيق الفكر الانساني. الحوار مع الرجل, له متعة خاصة, وانت تقلب معه صفحات من عمر الزمن امتدت اكثر من نصف قرن, وقبل ان تسجل مكتبة مدبولي (1958) تاريخ اليوبيل الذهبي.. سنوات وصفها الحاج مدبولي بانها كانت معركة مع الحياة والظروف, واصرارا على النجاح, حتى افتتح اول فرع لمكتبة ودار نشر وتوزيع عربية في لندن في بداية الخمسينيات.. وتواصلت رحلته في عالم النشر مع كبار الكتاب والمفكرين والشعراء والسياسيين الذين ربطتهم به علاقة خاصة, بحثا عن الجديد في عالم الفكر, وتقديم ابداعاتهم للنشر. اللقاء الخاص مع »العرب اليوم« كان متسعا لجوانب عديدة تكشف عن رؤية هذا الرجل لقضايا خاصة وعامة في المشهد العربي العام ومن الثقافة الى السياسة: * »العرب اليوم« تبدأ القصة من اولها, ما هو اول سطر في مسيرة كفاح ونجاح الحاج مدبولي? - مدبولي: البداية لطفلين انا واخي احمد 8 و 9 سنين.. ربنا اعطانا طموح ونحلم ببكره... تعرضنا لمشاكل وضغوط ومصاعب ولم نهتز... كانت امامنا رسالة, لم نساوم عليها, 15 سنة ننام في الشارع الى جانب »الكشك«.. واول مكان وقفت فيه كبائع صحف في ميدان كوبري الجلاء, امام كازينو بديعة الذي يقوم محله الآن شيراتون القاهرة, وقد بدأت حياتي المهنية مع عمي وليس مع ابي واشتغلت بين ميدان المساحة, و»بين السرايات« و»الجامعة«, وكل يوم عمل نبدأ من الثالثة والنصف بعد منتصف الليل وكنا ننتظر قدوم الصحف ونحن نائمون على موائد كازينو بديعة, وكان عمري حوالي ثماني سنوات وكنت اقوم بتوزيع الصحف لعمي على المنازل والجامعة وكان عمي قد سلمني حوالي 18 زبونا, انا سلمتهم له 118 زبونا, شقيت وتعبت, رغم ان والدي كان متعهدا لتوزيع الصحف الا انه عهد بي لعمي لاعمل معه لكي اشرب المهنة واقرأ السوق واكتسبت خبرة منذ وقت مبكر, وكان ابي يمر عليّ في التاسعة صباحا بعد انتهاء جولتي الى القشلاق (معسكر) انجليزي مكان دار الاوبرا الحالية ويضع لي مائدة اضع عليها الصحف, وكان احدهم يعطيني شوكولاته والآخر يعطيني »بونبوني« وكانوا قد منحوا ابي تصريحا للعمل داخل هذه المنطقة, الى ان ينتهي والدي من العمل, فنتجه الى سمير اميس كونتيننتال حيث قادة الجيش الانجليزي ونقوم بتسليم الجرائد ثم اتجه الى عمارات سيف الدين.. وفي عام 1958 عملنا دار نشر (دار المفكر) امام مقهى ريش, وفي عام 1974 انتقلنا الى هذا المكان امام تمثال طلعت حرب, ولكنني سأحكي لك منذ البداية, فلقد قامت نقابة الصحافيين بتخصيص اكشاك لبائعي الصحف وخصصت قيمتها الايجارية لمعاش الصحافيين هنا في الميدان وكنا صباحا نقابل باشاوات مصر وليلا كنا نشاهد الملك فاروق وهو في طريقه الى نادي السيارات ويظل يلعب الورق حتى التاسعة صباحا. واضاف: يكفي انني اشتغل ومستمر في اداء رسالتي واستكمال مشروعي على مدار نصف قرن والاحتفاء الحقيقي هو اتصالي بأفضل واهم رجال الفكر في مصر على اختلاف مشاربهم, فأنا اقدر قيمة كل منهم واتعلم منهم كما انني ادرك قيمة مصر كدولة ضاربة جذورها في تاريخ الحضارة الانسانية, ويكفيني شرفا ان اكون على اتصال باعلامها ومثقفيها. * خلال خمسين عاما من العمل كيف تتأمل نقطة البداية? - اعتبر النشر من اصعب المهن وقد بدأت مع اخي وقت ان كان عمرنا لا يتجاوز التاسعة لكننا كنا قادرين على ان نرسم خطوط المستقبل كان هناك نضج مبكر الهمنا به ربنا كما ساعدنا المناخ المحيط على ان نحلم ونحقق حلمنا.. كان عندنا كشك جرائد صغير. كان امامنا نماذج جادة تبني بلدا, كان هناك ثروت عكاشة وزيرا للثقافة, وعبدالقادر حاتم وزيرا للاعلام, كان ثروت عكاشة يضع خطة للانتاج الثقافي من اجل هدف اسمى يرمي من ورائه تحقيق خطوة جديدة على مسيرة البناء, لذا كان يجد استجابة حقيقية, الان هناك من يهد هذا البلد بدلا من ان يرتقي به.. النهاردة عندما نحاول ان نطور مجتمعنا يقفون في وجوهنا ويرفعون اسعار كل شيء فهم لا يريدون لهذا الشعب ان يأكل او يشرب او يتعلم هؤلاء »مسلطون« علينا من امريكا واسرائيل. * تتكلم عن ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم وغيرهم من رجال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. - هذه مراحل في حياتي.. محطات, ومحطة عبدالناصر »حاجة ثانية« كل ست ساعات يصدر كتاب يبني العقول والفكر.. وباسعار رمزية.. كانت هناك مراعاة للبعد الاقتصادي, وكانت شركات التوزيع نشطة جدا وهي حكومية.. كان فيه اناس بتبني البلد.. تبني عقولها.. جمال عبدالناصر كما قال عنه كاتب انجليزي انه غيّر وجه التاريخ.. »دا زعيم ذو شأن عظيم«. * وكيف كانت الرقابة في عهد عبدالناصر? - الرقابة موجودة دائما, وقد تعرضت خلال رحلتي الطويلة مع النشر لسلسة من قضايا امن الدولة تجاوزت 24 قضية.. لكن ايام عبدالناصر كان هناك مبدأ سائد آمنت به وطبقته. كان عبدالناصر يقول دائما »نظام - ادارة - نجاح« هذا المبدأ كان يطبق بالفعل وكان يؤتي ثماره, من يعمل ويجتهد كان يجد سبيله للنجاح, وفيما عدا ذلك كنا راضين عن كل ما يجري. »والله لو عبدالناصر قطع رقابنا« كنا سنظل وراءه, لاننا كنا نشعر انه رجل وطني يبني بلدا, وفي سبيل ذلك كنا نقبل حتى بأن يصبح جزء من حريتنا ضحية هذا المشروع الوطني.. واريد ان اسأل هؤلاء الذين يتشدقون بالاتهامات للعهود السابقة خاصة عهد عبدالناصر مين اللي علمكم, من اين اتيتم, اليست مجانية التعليم هي التي جعلت منكم مثقفين كبارا.. في زمن عبدالناصر كان هناك تعليم وصحة بالمجان, هناك جهد من كل مواطن لبناء وطن وبحب, وهو زمن انجب لمصر كبار المفكرين والعلماء والكتاب.. ثم هل تستطيع ان تذكر لي اسما من هؤلاء العباقرة جاء بعد زمن عبدالناصر.. كانت مساحة الحرية اكبر مما هي الان, اسوق في هذا الصدد هذه الحكاية ليعرفها من يصر على اشاعة تلك الاقاويل, ففي اوائل الستينيات كنت لا ازال املك كشكا صغيرا للجرائد, وكان فندق الهيلتون مبني حديثا, وكان النزلاء والمراسلون الاجانب يحضرون معهم المجلات والجرائد الاجنبية, وبعد قراءتها كان عمال الفندق يجمعونها ويحضرونها لي ويبيعونها لي, وانا اضعها امامي للبيع.. وبعد ساعات فوجئت باربع سيارات لامن الدولة والمخابرات والرقابة لم يتحدثوا اخذوني وجمعوا الجرائد وتم احتجازي وتحويلي الى قضايا امن الدولة العليا وهناك سألني القاضي: هل تبيع جرائد ومجلات »تشتم« الرئيس? فأجبته بأني لا اعرف القراءة لا عربي ولا انجليزي وانني احب جمال عبدالناصر اكثر منه, واذا بالقاضي يأمر بالافراج عني فورا وليس كما يقال.. * كانت هذه احدى القضايا التي تعرضت لها في زمن عبدالناصر.. هل تعرضت لقضايا اخرى? - مثلا لما كتب نزار قباني »هوامش على دفتر النكسة« تعرضت لهجوم شديد جدا, لانني كنت من يوزعها حينها وحقق معي وزير الداخلية نفسه, وقال لي اننا سألنا عن الكتاب من اسوان الى الاسكندرية فقالوا انهم اشتروا الكتاب من »مدبولي« فقلت له: »عدد سكان مصر كام تقريبا عشرين مليون وقتها فهل »مدبولي« استورد 20 مليون كتاب يوزعهم على الشارع المصري«, وطبعا لم يحدث شيء معي رغم ان الكتاب به هجوم واهانة شديدة لمصر وللزعيم, المهم خرجت من مكتب وزير الداخلية وارسلت خطابا الى نزار قباني وقلت له ارسل الى عبدالناصر رسالة مع الكتاب, لانه زعيم يقبل النقد البناء ولو على نفسه, وبعد ان اطلع الرئيس على الكتاب امر باذاعة اغنياته.. اذاً ف¯ »عبدالناصر« لم يكن له ذنب في ذلك, لانه بالفعل رجل عظيم, واذكر ايضا من الكتب التي تسببت في العديد من المشكلات كتاب اسمه »زمن الرعب« يتحدث عن الانفصال الذي حدث بين مصر وسورية, وبعد كل قضية كان يحضر الى مكتبة مدبولي كتاب وصحافيون من المهتمين بالثقافة ومستقبلها في مصر والوطن العربي.. * في عهد السادات ماذا كانت اهم المحاذير الرقابية! - الانفتاح الذي حدث كان استهلاكيا جاء بالشيبس والكولا وغيرها من دون ان يسعى لبناء مصانع لتشغيل الشباب وزيادة الانتاج لذا كانت الكتب التي تصادر في عهده كثيرة.. * هل بدأت تجربتك العريضة في النشر بالمفاهيم نفسها التي تتبناها اليوم? لا.. المفاهيم اختلفت وتحولت ربما لاكثر من 180 درجة فقد بدأت بداية بسيطة كان مرشدي الاول لتلك الخطوات, التي حولتني من بائع جرائد جوال في الشوارع الى ناشر, هو الرئيس جمال عبدالناصر, ذلك الرجل الذي بدأ رئاسته للبلاد بان اشركنا جميعا في المشروع الوطني. وقال على كل واحد ان يبني »طوبة« لبلده ووجدت في عالم النشر تلك »الطوبة« التي تمكني من المساهمة في نمو بلدي. نحن نتحدث عن زعيم عملنا »بني آدمين« والايام العظيمة التي عشناها مع هذا الرجل لا تنسى.. مثل عبدالناصر مات منذ 38 سنة وامريكا بتحاربه وهو ميت, وهم يقولون هذا الرجل لا يموت.. غريبة انا قابلت عبدالناصر امام فندق سميراميس وكان هناك المؤتمر الافرواسيوي, وطبعا كنت اوزع الجرايد امام الفندق ومعي تصريح وعندما خرج عبدالناصر بدأت اجهزة الامن تتحرك, و»بصيت« وجدت عبدالناصر امامي رحت حضنته, والله شعرت كأنه حضن احن من حضن الام, راح رجال المخابرات يتحركون قلت »دا زعيمنا, دا بتاعنا احنا. بلدياتنا. ابونا كلنا« ولا انسى هذا الحضن الدافئ مع الزعيم. * تعاملت مع صلاح جاهين ويوسف ادريس ونزار قباني وعبدالوهاب البياتي ونجيب محفوظ والابنودي وامل دنقل ونجيب سرور.. وغيرهم? - نجيب سرور كان يقف هنا في الشارع ويتحدث مع نفسه ويفترش الارض, اما نزار قباني فالعلاقة بيني وبينه كانت »عشرة« وتعاونت معه منذ اول كتبه واستمرت العلاقة اكثر من 15 سنة لدرجة انه اعطاني سبعة عشر كتابا له, لاطبعها في مصر مشاركة معه. لقد قال لي ذات مرة ان امواله في جيبي اكثر ضمانا له من البنك, لقد كان معي حينما افتتحنا المكتبة, هل تعلم ان ثلاثة وزراء افتتحوا المكتبة. كمال رفعت, ومحمد احمد, ويوسف السباعي, وهذه سابقة لم تحدث في مصر فضلا عن رؤساء التحرير. * اثيرت ضجة كبيرة وقيل انك احرقت مؤلفات نوال السعداوي? - انا اعدمت كتابين عشان ربنا. فانا مع حرية الفكر الا فيما يمس الذات الالهية, وانا مقتنع بان العقل خلق ليفكر ويتأمل ويبحث مع اعترافي باختلاف وجهات النظر, انا نشرت للدكتورة نوال السنة الماضية اعمالها الكاملة تضمنت 42 عنوانا منها عنوانان واحد عن »الامامة« والاخر »الاله يقدم استقالته« نحن لن نحرق الكتب بالمعنى المتعارف عليه وانما قمنا باعدام اصولهما المملوكة لنا في المطبعة كي لا ينشر منه نسخ.. نحن دائما ننشر اعمال د. نوال السعداوي ومنذ عشرين سنة اصدرت لها نحو 24 عنوانا. والدكتورة نوال »مش ماشية بالبركة« ولا هي مش عارفة ايه اللي بتعمله فهي كاتبة واعية ومسؤولة عما تكتبه, واذا كانت لها شطحات فانها صاحبة رأي وهذه شطحات مماثلة, لشطحات طه حسين, وتاريخ النشر المصري قال ان حالات مماثلة حدثت قبل هذا ولا ننسى »الاسلام واصول الحكم« للشيخ علي عبدالرازق مثلا. * هل صحيح ان الاتجاه الديني يسيطر على توجهات النشر? - الشعب المصري شعب واع وليس من السهل تضليله, من الحضارة الفرعونية وحتى اليوم هناك وعي رغم محاولات تشويهه, ولو تمكنت الاصولية الدينية من المجتمع سيختنق سوق النشر فانا مع نشر الفكر والرد من قبل المختلفين فكريا ولا اتمنى سيطرة هذا الاتجاه. * ما الكتب الاكثر رواجا بين ما تصدره من كتب? - ماركيز, والكتب التي تتناول القضايا العربية والرواية وكتب الحظ ونحن لا ننشر كتب الخرافات فنحن نقدم المعرفة لا الخرافة. »صلي على النبي« هناك نوعان من الكتب ابتعد عنهم, الاول الكتاب الاسلامي لان له حساسيات ومحظورات, والثاني كتاب الجنس الفاضح. لاننا بنبني فكر.. وبنبني وعي بلد. * هل تخشى على الكتاب من النشر الالكتروني وشبكة الانترنت التي تستقطب الملايين? - المهنة الورقية باقية الى يوم القيامة.. وسبحانه وتعالى قال (اقرأ) ونحن امة تقرأ, ولن تؤثر هذه المستجدات على الكتاب. العرب اليوم