من يمتلك المعرفة يمسك بناصية القوة، أدرك المغول ذلك حين غزوا بلاد العرب، فجعلوا من الكتب جسراً على نهر دجلة، عبروا فوقه إلى غايتهم، وأدرك بعض من يمتلكون السلطة، في كل زمان ومكان، هذا المعنى، حين طاردوا الكتاب، وحاصروه على الأرصفة، وأحرقوه في خزائنه، بل أصدروا قرارات بتصفية الكاتب نفسه . من يتابع سيرة الكتب والمكتبات في مصر، لا يفوته هذا المعنى ف "مكتبة الإسكندرية"أعرق مكتبات العالم القديم، تم إحراقها وتدميرها على يدي فاعل لا يزال مجهولاً إلى الآن، قبلها كانت المعرفة وارتياد المكتبات حكراً على الكهنة في مصر الفرعونية . من يتابع هذه المسيرة يتأكد أن المستهدف دائماً هو الكتاب والكاتب والمكتبة، ففي أحد جوانب تداعيات الفوضى، العرض الجانبي لثورة 25 يناير، أحرق مجموعة من "البلطجية"المحسوبين على النظام السابق، مبنى "المجمع العلمي المصري"بكل ما يحتويه من كتب ووثائق وخرائط نادرة . العنف في التعامل مع الكتاب لا يختلف من زمن إلى آخر، فمنذ أشهر قليلة اعتدت شرطة المرافق بالإسكندرية على أكشاك بيع الكتب في "شارع النبي دانيال«، وفي القاهرة يعيش باعة الكتب في "سور الأزبكية"كابوس الانتقال من مكانهم التاريخي إلى مدينة نصر . تاريخ المكتبات جزء من ذاكرة مصر، يتم التعامل معه بإهمال جسيم، وينتهي به الحال إما إلى التدمير أو الحرق، أو في أفضل الأحوال تتحول المكتبة إلى ساحة مهجورة، تعشش بين أرففها العناكب والتراب، رغم أن التاريخ يشهد أن الثقافة والكتاب كانا السفير الأمثل لقوة مصر الناعمة . في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، وعلى يدي بطليموس الأول، أنشئت في الإسكندرية أهم وأعظم مكتبة عرفها العالم، وبجانبها الجامعة التي نقلت علوم الرياضيات والفلسفة إلى أرجاء المعمورة، وقد بلغ عدد الكتب والمخطوطات بالمكتبة عند تدشينها نحو 700 ألف مجلد، وكانت مصر آنذاك سوقاً كبيرة للكتب، حتى أن السفن التي ترسو بميناء الإسكندرية، كان يصادر ما عليها من كتب، أو يتم استنساخها وإعادتها لأصحابها . حافظ البطالمة على المكتبة، وعملوا على تنمية قدراتها إلى أن تم إحراقها، في روايات، اختلف المؤرخون حول الفاعل الحقيقي الذي يقف وراءها، لكن التدمير كان شاهداً على دخول مصر نفقاً مظلماً طويلاً، بدأ بالاحتلال الروماني للبلاد، وانتهى بالحادث الأبشع في التاريخ القديم، حين أصدر العامة والغوغاء قراراً بإعدام عالمة الإسكندرية "هيباتيا«، وسحلها في الشوارع، وتمزيق جسدها، لأنها تدرس (علوم الوثنية) من فلك ورياضيات وفلسفة . وفي العام 2002 وبدعم من "اليونسكو«، أعيد إحياء الحلم، بعودة المكتبة إلى الوجود، لتكون نافذة مصر على العالم، بما تضمه من تراث إنساني وثقافي، وبلغ عدد الكتب بها ما يفوق ثمانية ملايين كتاب، إضافة إلى المحاضرات والأنشطة الثقافية والفنية والعلمية التي لا يخلو منها يوم من أيام المكتبة، لتعود كما كانت همزة وصل بين الشرق والغرب، ومنارة علمية يأتي إليها العلماء من كل مكان . مذبحة جديدة مثلما دمر الحريق مكتبة الإسكندرية القديمة، كانت النيران بالمرصاد لمكتبة "المجمع العلمي المصري"ليشهد العالم مذبحة جديدة من مذابح الكتب، ففي منتصف ديسمبر/كانون الأول من العام ،2011 وأثناء ما عرف بأحداث مجلس الوزراء، حين اصطدم رجال الشرطة بالمتظاهرين في محيط المجمع، فوجئ الرأي العام العالمي بحريق يندلع في أحد المباني التاريخية بوسط القاهرة، عرف من خلاله أن بمصر مكانا اسمه "المجمع العلمي المصري«، فقد غرق الأثر التاريخي في مجاهل النسيان شأنه شأن الأماكن الحيوية والمضيئة في تاريخ مصر، في عهد النظام السابق، إلى أن أعلن عن وجوده حريق ضخم التهم ما يحويه من كنوز إنسانية . أياً كان السبب الحقيقي وراء إنشاء المجمع على يدي نابليون بونابرت في العام ،1798 فإنه ظل لسنوات طويلة يحوي ذاكرة مصر بين جدرانه، بما يهدف إليه من نشر العلم والمعرفة، ومع خروج الحملة الفرنسية من مصر تم إهمال المجمع، بعد نشاط مكثف تم خلاله إعداد دراسات تفصيلية عن مصر، ضمها فيما بعد كتاب "وصف مصر"وفي العام 1880 عاود المجمع أنشطته، بعقد المحاضرات التي كان يلقيها علماء مصريون وأجانب . وعندما انهار سقف المجمع والتهمت الحرائق جدرانه بفعل "البلطجية«، كان جزء من الذاكرة المصرية تأكله النيران، فالمجمع الذي يضم مخطوطات وكتباً أثرية وخرائط نادرة، استعانت بها مصر، في معركة استرداد طابا، أمام التحكيم الدولي، لم ينج من مكتبته سوى 25 ألف كتاب ووثيقة، وضاع ما يقرب من 200 ألف وثيقة تاريخية . ويحفظ الشعب المصري لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مبادرته الكريمة بإعلانه، وفور وقوع الكارثة، عن عزمه الإسهام بترميم المبنى الأثري، وتزويده بنسخ من الكتب التي ضاعت في الحريق، فالشيخ الدكتور سلطان القاسمي يعد من أبرز أعضاء المجمع . وبعد ما يقرب من العام على هذا الحادث المروع أعيد افتتاح المجمع، نهاية أكتوبر الماضي، ومن المقرر أن يكون هناك مشروع لمجمع علمي جديد، في مدينة السادس من أكتوبر/تشرين الأول، يراه د . صابر عرب وزير الثقافة المصري، مكملاً لنشاطات المجمع القديم . حملات على سور الأزبكية منذ أكثر من مئة عام كانت منطقة الأزبكية عبارة عن بركة مساحتها نحو 60 فداناً، تم ردمها في العام ،1864 وإنشاء حديقة عامة على مساحة 20 فداناً، وأقيم عبرها مسرح، غنى عليه كبار المطربين، وكانت الحديقة محاطة بسور حديدي، تم هدمه مع بدايات ثورة 23 يوليو ،1952 وإقامة سور حجري، تحول بمرور الوقت إلى مكان لبيع الكتب . بدأت حكاية السور بمجموعة من باعة الكتب القديمة، كانوا يقومون ببيع الكتب إلى المثقفين على المقاهي، وفي ساعات الظهيرة عندما كانت المقاهي تغلق أبوابها، كان الباعة الجائلون يستريحون في ظلال الأشجار بميدان الأوبرا، ومع مرور الوقت استقر بهم المقام في هذا المكان، ولم يسلم هؤلاء من مطاردات رجال الشرطة، لقرب المكان من الأوبرا الملكية، إلى أن أصدر مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر آنذاك قراراً بمنح الباعة تراخيص للبيع في ذات المكان، واستمرت الأمور على ما هي عليه إلى أن أقامت ثورة يوليو لهم أكشاكاً ومكتبات . ومع بدايات التسعينات تعرض السور لحملات مداهمة، ونقل قسري إلى أماكن أخرى، مرة بسبب إقامة نفق الأزهر، وأخرى بسبب أعمال مترو الأنفاق، وتم تجميع ما يوازي 132 مكتبة في رقعة ضيقة، يزاحم باعة الكتب فيها باعة الملابس والأحذية ولعب الأطفال، فتآكلت مساحة السور، الذي أطلق عليه الكاتب سليمان فياض ذات يوم "جامعة الفقراء"في برنامج إذاعي كان يقدمه منذ عشرين عاما تحت عنوان "سور الأزبكية". الآن تجري محاولات من قبل اتحاد الناشرين المصريين لنقل السور إلى مدينة نصر، بدعوى انتشار عمليات تزوير الكتب عن طريق الباعة الموجودين بالسور، وهو اقتراح غريب، فالأجدى تحويل المنطقة، التي تضم مسارح كبرى وأماكن أثرية إلى مزار سياحي ثقافي، خصوصا أن السور كان قبلة لعديد من المثقفين المصريين والعرب، طوال عمره الممتد في عمق التاريخ إلى ما يزيد على مئة عام، ولا تخلو مكتبة أي مثقف عربي من كتب اقتناه من السور، بل إن رؤساء وملوكاً كانوا يداومون على زيارته، ومنهم الرئيسان جمال عبد الناصر والسادات الذي قال يوماً: "كنت أنحني وأشرب الشاي وأقرأ الكتب الرخيصة من سور الأزبكية". كما أن الشاعر فاروق جديدة كتب أن "سور الأزبكية كان بيتاً من أهم بيوت الثقافة العربية، وحين تحول إلى محال لبيع الأحذية وشرائط الأغاني الهابطة أدركت أن العقل المصري دخل مرحلة الغيبوبة". واتفاقاً مع ما سبق فإن "الحاج حربي"أقدم بائعي الكتب بالسور، وقد توارث هذه المهنة أباً عن جد، يؤكد أنه منذ صغره كان يشاهد نجيب محفوظ يتردد على السور باحثاً عن كتب الفلسفة، كما رأى عن قرب الرئيس محمد نجيب وأنيس منصور والرئيس الجزائري هواري بومدين، وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار حين زارا مصر في الستينات . فكرة سور الأزبكية انتقلت إلى أكثر من قطر عربي، وحملت الاسم ذاته، وقد تم استنساخه في أكثر من مكان بمصر، إلا أنه مهدد الآن بالتشريد، الأمر الذي يحلينا إلى "شارع النبي دانيال"الذي تعرض منذ أشهر قليلة إلى مذبحة حين أمر محافظ الإسكندرية بإزالة أكشاك الكتب من الشارع بدعوى مخالفتها للتصاريح . شارع النبي دانيال في ذاته حكاية تشبه مصر، فعمره من عمر الإسكندرية ذاتها، وهو يمثل حواراً خاصاً بين الأديان، ففيه مسجد النبي دانيال والكنيسة المرقسية أقدم الكنائس المصرية، ومعبد الياهو الذي تتردد عليه الجالية اليهودية في الإسكندرية، ومبنى جريدة الأهرام، الذي صدر منه أول أعدادها، والمركز الثقافي الفرنسي الذي تأسس عام 1886 . منذ الخمسينات صار الشارع مقصداً للباحثين عن الكتب القديمة، التي نفدت طبعاتها، إلى أن دهمته الحملات الأمنية، فاحتج الكثير من المثقفين على هذا الإجراء المعادي للثقافة، ومنهم جمال الغيطاني الذي قال إن "قرار الإزالة سياسي وليس إدارياً بسبب عداء الإخوان المسلمين للثقافة«، كما أن الروائي يوسف زيدان وصف ما حدث بأنه "عمل يدل على الجهل وقصر النظر، وغباء لا علاج له". مدبولي مع التراجع الثقافي الذي شهدته مصر، منذ السبعينات، دخلت "مكتبة مدبولي"المعلم الشهير بوسط القاهرة، مرحلة بيات شتوي، اختفى خلالها دور المكتبة كناشر مهم في العالم العربي، وكانت شرطة المرافق أيضاً تحاصر الكتاب، من وقت إلى آخر، وتجلي المعروض منه عن الرصيف، لينزوي في ركن صغير بالمكتبة التي تهبط إليها عبر عدة سلالم، وبالكاد تتحرك في المكان بحرية منقوصة . انتهى مدبولي كناشر جريء حين قام بإعدام كتابين لنوال السعداوي قبيل وفاته بأشهر، لأنهما كما قيل وقتها "يزدريان الأديان«، ويبدو أن هذه الواقعة كانت إجراء احترازياً حتى لا يتكرر معه ما جرى من قبل حين وزع كتاباً عنوانه "مسافة في عقل رجل"لكاتب، حكم عليه بالسجن، وأعفي مدبولي من العقوبة بقرار رئاسي . كانت أعوام من التحولات المصرية تفعل فعلها في الثقافة المصرية، والرجل العصامي، الذي لم يتعلم تعليماً نظامياً، وبدأ حياته بائعاً للصحف مع والده، إلى أن صار صاحب توكيلات بيع أهم الصحف المصرية والعربية والعالمية، حين استقر به الحال في كشك صغير أمام عمارة يعقوبيان، وعن طريق الجاليات الأجنبية التي رحلت عن مصر، توصل الحاج مدبولي (19382008) إلى مكتبات عديدة تخص هؤلاء، وعرضها في كشكه الشهير . ومع بدايات العدوان الثلاثي على مصر في 1956 تحولت "مكتبة مدبولي"إلى مقصد يؤمه الباحثون عن الكتب الممنوعة أو المصادرة، ويتردد عليه المثقفون العرب، لنشر كتبهم، حتى إن مدبولي قال في أحد الحوارات التي أجريت معه إنه من نصح نزار قباني باللجوء إلى جمال عبد الناصر لمنع مصادرة ديوانه الشهير "هوامش على دفتر النكسة". قبل أن يفارق مدبولي الحياة في العام ،2008 ظل على مدى خمسين عاماً ناشراً صامداً في وجه التغيرات التي عصفت بمصر، بدءاً من سبعينات القرن الماضي، حين تحول أشهر شارع للمكتبات في مصر "الفجالة"إلى سوق للسيراميك والكتب المدرسية، وتحولت "مكتبة مصر"الناشر الأول لنجيب محفوظ إلى رقيب يحذف فقرات من روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ونجيب محفوظ، تلك المكتبة التي كان مؤسسها عبدالحميد جودة السحار . انتهى العهد الذهبي لمكتبة مدبولي، لكن بقيت جملة دالة منسوبة إلى أحد تقارير المخابرات المركزية الأمريكية حول كشك الحاج مدبولي الذي "أصبح ظاهرة ثقافية رائعة للمصريين والعرب على حد سواء". وقال غير أديب إن "مكتبة مدبولي بورصة الكتاب وبوصلة القارئ والباحث". لاشك في أن هذا الرجل تحمل فوق ما يحتمله أقرانه، جراء النشر، لذا علينا أن نتفهم قيامه بإعدام كتابي نوال السعداوي، فالرجل كان يتردد كثيراً قبل نشر أي كتاب، خصوصاً حين أقام سكان عمارة يعقوبيان ضده وضد علاء الأسواني دعوى قضائية وقضت المحكمة لهم بتعويض مالي، لكنه رحل عن الدنيا ولديه يقين بأن "الكتاب سيظل موجوداً إلى يوم القيامة"على حد تعبيره . مكتبة الأسرة بقيت الإشارة إلى مشروع آخر على قدر كبير من الأهمية وهو "مكتبة الأسرة«، ذلك المشروع الذي دخل كل بيت مصري، بما أتاحه من كتب مهمة سعرها زهيد، ظل المشروع قائماً لأكثر من عشر سنوات، برعاية زوجة الرئيس السابق مبارك، وبدعم مالي من جهات حكومية عديدة . وبعد ثورة 25 يناير توقفت هذه الجهات الداعمة عن تمويل المشروع، لكن الهيئة المصرية العامة للكتاب الناشر الأساسي القائم على المشروع، تصر على ألا تسقط "مكتبة الأسرة"من الذاكرة الثقافية بسقوط رموز النظام السابق، ولا يزال المشروع يعمل وإن كان يتحرك بإيقاع بطيء .