ينتابي - أحيناً كثيرة - شعور بالمرارة والأسى عندما يجد المرء نفسه في مواجهة الحياة يبحث عن كوة في جدارها ينفذ من خلالها النور في تلك الظلمة الحالكة والرطوبة القاتلة، هي الحياة، بحلوها ومرها، التي تغريك على البقاء مقاوماً حتى الرمق الأخير، ذلك أنك تنشغل في جلّ، بل كلِّ، سني عمرك تطارد دخان ذاتك التي تتناثر بين الرغبات والأمنيات والتضحيات والانكسارات، بين السيطرة عليها أو الانقياد لها، من هنا تمسك بخط الحياة لترسم استقامته أو اعوجاجه نزوعها للعلو أو سقوطه إلى الأدنى والأسفل. كل هذه التناقضات - لا شك - كفيلة بجعلك تراوح مكانك إن استكنت للظروف وما تحمله من مثبطات، وللواقع وما يكيله عليك من قذى يدمي العين فتفقد البصر، بعد أن ذهبت البصيرة، لذا العودة إلى الذات ليس سهلاً إذا ما كنت غير واعٍ لها منذ النشأة الأولى والتشكُّل البكر، وهي بدايات تصنعها حزمة القيم والسلوكيات والأخلاقيات التي ترعرعت عليها وبها وفيها، بدايات تهيمن على ما تبقى من مشوار العمر لتصبح لا مناص من التماهي معها، وإن رغبت في الثورة عليها والجنوح إلى ذاتك المفقودة أعادتك مكبلاً إلى مراتعها، فكم من فتى ظن نفسه قد بلغ المجد وتوسد الشهرة وفق قاعدة من يقرأ التاريخ يبحث عني وعن بداياتي؟!، هذه البراجماتية النزقة هي التي أسقطت الكثيرين من حسابات الحاضر والآتي، فانشغلوا عن ماضيهم بتلوين الآن بما يتوازى مع تلك التمظهرات والتشكلات الأولى، أكان في الملمح الاجتماعي أم الثقافي أم السياسي، وغيرها، فالكثير يذهب بقدميه على ماضيه ويجزم أنه ليس ماضيه الذي كان، في لحظة (شيزوفرينا) مريضة تنفصل عن كل مكونات تاريخها الذي عاشت تتغنى به أو على جسد السياسة والأفكار والرؤى التي لاكتها مراراً وتكراراً زمنئذٍ، راحلة إلى متاهات متون جديدة فيها ومنها الزاد الذي ترتجيه لذاتها النهمة والشاذة عن الذات التي يجب أن تكون. كثيراً، ما استعرض من ذاكرة الأيام والسنين وجوهاً كنت أحسبها كما كانت وما أدّعت، ولكن للزمن حافظته الخاصة التي توقفك عند شاطئ الأمنيات ومرافئ الطيبة لتخبرك أن بعض من كانوا لم يعودا كما كانوا فلا تكن مثلما هم كائنون، هي ثرثرة مع ذاتي في رحيلها - لحظة - إلى الذات. وكفى!