يتشكل الإنسان بشكل جوهري في مرحلة ما قبل المدرسة؛ فيتبرمج في خرائط ذهنية لا فكاك منها ولا خلاص، وفي سجن من أربعة أسوار؛ من (البيولوجيا) و(التاريخ) و(الثقافة) و(الجغرافيا). وبذلك يشكله المجتمع بأقوى من صهر الحديد في مصانع الصلب؛ فيخرج منا طائرةA380 أو حاوية قمامات. وهذا يعني أن كثيراً مما نتصرف يحصل من خلال عالم (اللا وعي) الذي كشفه علم النفس التحليلي، فالإنسان مكون من ثلاث طبقات منضدة فوق بعضها البعض؛ في الأعلى (ما فوق الوعي) وهي جداً رقيقة، وهي موضع التماع بريق الأفكار الإبداعية الفجائية. وطبقة (الوعي) وهي تمثل 5% من كياننا النفسي، وهي تشبه ضوء المنارة على ساحل المحيط عندها القدرة في تركيز الضوء في محرق محدد لوقت محدد، فإذا انقضت تحولت المنطقة إلى ظلام دامس.. وتحتها طبقة (اللا وعي) التي تمثل 95% الذي يمثل المحيط الواسع الذي يضم شخصيتنا، وفيه مستودعات (الخبرات) و(العواطف) و(الأخلاق) و(العقد النفسية) ومن ظلماته تتشكل الأحلام فنعيش حياتنا الثانية. نحن نقود السيارة ونشرب فنجان القهوة ونزرر قميصنا، ونمارس الجنس برتابة آلية، والروتين سيئ ورائع بنفس الوقت؛ لأنه بقدر ما يقتل الإبداع بقدر ما يريحنا. ولو كان إفراز الهورمونات وخفقان القلب مرتبطاً بالفكر لسقط العقل في شباك الطبيعة العمياء. وحتى الكلام يسيطر عليه (اللا وعي) مع أنه أكبر تجليات الوعي؛ فنحن حينما نتكلم لا نفكر كيف تمر الكلمات من الدماغ إلى جهاز التصويت، ولو فكرنا في كيف نفكر لا نقطع كل تفكير. ولو تأملنا جسدنا لرأينا فيه تداخل ثلاثة مستويات بنفس اللحظة من (الإرادة) و(نصف الإرادة) و(اللا إرادة). فالكلية تنظف البدن على مدار الساعة وعلى نحو أعمى دون تفكير، ويمكن أن نحبس أنفاسنا لدقيقة، ولكننا نتميز عن النبات والحيوان، فالنبات ينمو ولكن لا يعرف لماذا ينمو، أو كيف ينمو، بل هو في قبضة قوانين آلية والقوى العمياء الخفية. وتعرف القطة كيف تبحث عن طعامها، ولكنها لا تملك تعليل ملوحة ماء البحر. كما لا يقدم الكلب على الانتحار، ولم نر شجرة أضربت عن الطعام وأعلنت الصيام!! ولكن الإنسان يفعل ذلك. وهكذا فهناك كيانان رئيسيان يتحكمان بنا، ولكنهما متصلان على شكل طريق أحادي الاتجاه في الغالب، ف(الوعي) هو الذي يشحن أولاً؛ فإذا تشبع نقل الفكر إلى اللا وعي. وهذا التيار مستمر على مدار الساعة كما يشحن الدينمو بطارية السيارة، ويتدفق تيار المعلومات باتجاه واحد كما في السيالة الكهربية عندما تمر في محول كهربي من قوة 110 إلى 220 فولت. وما يصل أرض (اللا وعي) ينحبس فيه ويتحول إلى قوة تشغيل خفية. والله خلقكم وما تعملون.