كان الفندق الذي نزلنا فيه بالعاصمة المغربية (الرباط) يقع وسط المدينة، كما أنه يطل على محطة القطارات، وكنت أستمتع بصوت انطلاقته أو وصوله وأنا مستلقٍ على سريري في غرفة الفندق، بل إن عامل الفندق نصحني بتغيير غرفتي لأنها تطل على محطة القطار؛ لكنني رفضت نصيحته وأصررت على البقاء فيها. ويعود عشقي للقطار إلى وقت غير قصير عندما سافرت عليه من اسطنبول إلى العاصمة البلغارية (صوفيا) حيث وجدت فيه متعة لا تضاهيها متعة السفر عبر الطائرة أو السفينة. ولو لم يكن برنامج الزيارة إلى المغرب مزدحماً والوقت قصيراً لأخذت أعدو كالطفل بين عرباته ومقصوراته عبر محطاته العديدة والمتباعدة؛ مستمتعاً برؤية المساحات الخضراء التي تكسو الطبيعة في المغرب وشروق الشمس وغروبها على صوت طقطقة عربات القطار وقضبانه وهو يتلوى كالثعبان وصولاً إلى محطاته؛ بينما تطالعك وجوه الناس وقد اكتست ابتسامة خافتة وكأنها مطمأنة غير مكترثة إلى ما حولها من ضجيج.
وخلال الرحلة القصيرة في طريق العودة من (الرباط) إلى (الدار البيضاء) في آخر يوم للزيارة؛ استقللنا القطار الذي يقوم بقطع المسافة بين المدينتين بحوالي ساعة واحدة، كانت المشاهد والانطباعات تتزاحم في مخيلتي عن الزيارة الجميلة إلى المغرب الذي يقع على جانب من البحر الأبيض المتوسط؛ بينما تواجهه على الضفة الأخرى مناطق أوروبا، حيث أحلام الشباب الذين يُلقون بأنفسهم عرض البحر بحثاً عن الحلم الأوروبي، والأمر لا يقتصر على الشباب في المغرب، بل من دول أفريقية مجاورة كثيرة.
كانت عجلات القطار تحدث صريراً بينما كنت أستذكر اللحظات الجميلة التي عشتها في مدينة الرباط بمنازلها البيضاوية وأشجارها المنسقة، وقباب مآذنها السامقة ووجوه ناسها الرائعة وأسواقها القديمة وأحراشها وتداخل جداول مياهها العذبة بشطآنها الهادئة.
يعود صوت صفارة القطار وهي تُعلمنا بالوصول إلى محطة جديدة في طريقنا إلى الدار البيضاء، فأتذكر حالة المقارنة المستمرة بين الواقع والحلم، وأستذكر شواهد التاريخ التي جعلت من اليمنيين القدماء يشمّرون عن سواعدهم ويركبون المخاطر حتى وصل بهم الحال إلى تخوم أوروبا؛ حيث أقاموا في الأندلس جنباً إلى جنب مع شعوب المعمورة يبنون العمارة ويصيغون ثقافة تقوم على الانفتاح والتعايش والحوار؛ بينما نراهم اليوم يضيقون ببعضهم البعض، ويتنافرون ويدعون إلى القطيعة والاقتتال!.
يبدأ قطار العودة يخلع سرعته، وتتنادى الأصوات بالبحث عن بعضها عند محطة النزول.. فتبدأ الأقدام تتحسس الأرض المرصعة بالرخام وقد أضاءتها قناديل في أشكال رائعة، وعلقت على جدرانها لوحات سريالية تعكس الأفق الحضاري لهذا البلد الذي ترعرع وسط مناخ من حب الناس لبعضهم البعض فأينعت تجربة تستحق أن يحتذى بها.
كان العشاق يلوحون لبعضهم، عند المحطة الأخيرة، بينما كانت نظراتي معلقة على عربات القطار وكأنني أستذكر شوقاً، وأتطلع إلى حلم أن يأتي ذات يوم قطار إلى بلدي!.